يحيي عواره يكتب: إبني ليس “غزالًا”… وأنا أحبه !

عن الموضوعية والذاتية
إذا كان إبني قردًا فمن الأفضل أن أراه قردًا وأحبه… أُحِبُه أكثر مما أحب أيَ غزال… نعم، هذا أفضل جدًا.
حكى لي صديق ذات مساء في سياق لم أعد أتذكره، قال: “عندما كان إبني في سن المراهقة، كانت أسرتنا ترتبط بعلاقات صداقة مع عائلات بعض من ارتبطنا معهم بعلاقات قرابة أو جيرة أو زمالة، وكنا نتبادل الزيارات ونلتقي أحيانًا بالنادي، فقامت بين أبنائنا المتقاربين في السن صداقة أعتبروا أنفسهم بناءً عليها شلة، فكانوا يلتقون ببعضهم مستقلين عن الكبار وبعيدًا عن رقابتهم، للترويح عن أنفسهم على الوجه الذي يستريحون إليه، ويبدو أن شلة المراهقين هذه تجاوزت ما أعتبره بعض أهلهم حدود المعقول من ممارسات مثل تدخين السجائر أو السهر بأماكن لا يجوز لهم أن يترددوا عليها أصلًا، الغريب – هكذا استطرد صديقي – أن معظم الآباء والأمهات كانوا يرددون، كلٌ على حده، أن ابنهم بالذات طيب وحسن التربية، وكانوا يلقون باللائمة كلها على باقي الأولاد باعتبارهم رفاق سوء، لم تُحسن تربيتهم، ويتهمونهم بتحريض ابنهم على الفساد والتمرد”.
هذه الحكاية تشير إلى الميل الطبيعي لدى كلٍ منا – وإنْ بدرجات متفاوتة – للنظر ألى الأمور بالطريقة التي ترضي غرورنا وتتوافق مع مشاعرنا وميولنا الغريزية، وتحيد بنا قليلًا أو كثيرًا، عن النظر الموضوعي الأقرب للحياد والأمانة والشجاعة الأدبية.
وكثيرًا ما تكونت لديَّ تخيلات وصور عن أبناء أو زوجات أصدقاء لي قبل أن أقابلهم وأتعرف عليهم بنفسي، وذلك عن طريق حكي الصديق لي عنهم، وكثيرًا ما وجدت بعد اللقاء أن هناك تفاوتًا كبيرًا بين الصورة التي نقلت إليَّ ملونة بميول وهوى الحاكي وتلك الصورة التي تكونت لديَّ بعد اللقاء وبعد بعض التفاعل.
“لماذا تنظر القذَى الذي في عين أخيك ؟ وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها !”
من الظواهر الملفتة للنظر في المشهد المصري العام الآن – بعد أن دبت فيه الروح بتداعيات اندلاع الثورة – أن الكثيرين منا يعبرون عن حرصهم الشديد على كرامة وحقوق الإنسان إذا ما تعرض الجانب الذي يؤيدونه لانتهاكات من هذا النوع، ولكنهم يتغاضون عن مثل هذه الانتهاكات لو مورست على المنتمين لغير المعسكر الذي يؤيدون، بل ويدعون لهذه الانتهاكات ويحرضون عليها. البعض يعلن أيضًا عن غيرته على مدنية الدولة وحساسيته تجاه تدخل رجال ودعاة الدين ومؤسساتهم حينما يصدر هذا من أتباع دين غير دينهم ولكنهم يتغاضون عنه ويستجيبون له إذا مورس من أتباع دينهم.
وهكذا نرى أن آفة الخضوع للهوى لا تقتصر على ذاتية النظر على المستوى الفردي أو الشخصي ولكنها تأخذ في المجتمع الذي تتفشى فيه شكل الانحياز الطائفي أو الطبقي أو الجنسي أو ماشابه من تقسيمات. إنها في الحقيقة آفة واحدة وإن تنوعت مظاهرها وهي في كل الأحوال بالغة الأذى.
وإذا اتفقنا على أن النظر للأمور بشكل موضوعي صرف يعني التجرد من كل ما يؤثر على ذواتنا الفردية من مشاعر أو مصالح أو غرائز، ويعني الإحاطة بها من كافة زواياها وجوانبها، فسوف ندرك أن تمام التمتع بالنظر الموضوعي أمر تخيلي، وليس في طاقة البشر، ولكن يبقى في طاقتنا – ومن واجبنا – أن نتحرى دائمًا الإقتراب من الحد الأقصى من النظر الموضوعي الممكن، لأنه المقدمة الضرورية لتشخيص التحديات بأكبر قدر من الدقة والتعامل معها بأوفر قدر من الرشد.
يحيى عواره
تورنتو