قليني نجيب يكتب: يا طالع الشجرة!

حظيت الاشجار بمكانة كبيرة في ثقافات الشعوب القديمة والحديثة. وحاكوا حولها الاساطير وقالوا فيها الامثال وانشدوا في جمالها الاشعار. واتذكر وانا طفل عندما كنت اسمع اغنية ” يا طالع الشجرة هاتلي معاك بقرة …”، أن الخيال كان يأخذني الى تصور وجود بقرة فوق الشجرة. وكنت اتساءل كيف للبقرة ان توجد فوق شجرة وليس لها يدان مثل الانسان وليست صغيرة مثل الجرذان.
وكان للصينيين شجرة يطلقون عليها ” شجرة الحياة ” ويعتقدون بأنها تثمر مرة كل ثلاثة الاف سنة وأن من يتناول من ثمرها ينال الخلود. وتقول الاسطورة الفارسية بصراع الخير”اهورامزدا”، والشر” اهريمان”، حول شجرة الحياة، الاول يريد بقاءها والثاني يرغب في زوالها. فأقام عليها الاول سمكة تحرسها، وسلط عليها الثاني حشرة تقرضها.
وقدس المصريون القدماء شجرة الجميز وجعلوها في حماية حتحور. كما وضعوا شجرة الزيتون تحت رعاية تحوت رب الحكمة. فمن القابه التي تقرأ على تمثال لرمسيس الرابع في المتحف المفتوح بمنطقة ميت رهينة، لقب ” الذي يجلس تحت الزيتونة “.
وتختلف نظرة الناس الى الاشجار تبعا لاختلاف ثقافتهم ومعتقداتهم وحاجاتهم واهوائهم. فينظر اليها الفيلسوف باعتبارها جزء من الوجود العيني الذي تتألف عناصره من الماء والتراب والنار والاثير-كما قال الايونيون. فلا يقف الفيلسوف عند الشجرة بوصفها كيان مستقل بل باعتبارها خلية في النسيج الوجودي؛ اما العالِم فيقسم الاشجار الى انواع وفصائل. ويقوم بتشريحها، ويغوص بمنظاره في جزئياتها وعصارتها واليافها واوراقها.
وينظر اليها الفنان بحسه الفني وبوجدانه الانساني، فيتغى الشاعر بجمالها، كما تتحرك ريشة الرسام ليبدع من خلالها لوحة فنية تثير اعجاب المشاهدين. وهي تختلف عن نظرة التاجر النفعية للاشجار باعتبارها مصدر للدخل، بغض النظر عن الاضرار البيئية الجسيمة التي تنشأ عن قطعها.
وانطلاقا من معتقدهم في وحدة الدائرة الكونية التي تربط الانسان والاشجار والارض والشمس في وحدة واحدة، كان الهنود الحمر يرون ان الشجر كائن حي يشعر ويتألم، كما يتألم الجسد، اذا بتر منها الانسان فرعا او جذعا. لهذا انتقد احد زعمائهم المستعمر الاوربي لانه ” يقلب الارض ويقطع الاشجار ويدمر كل شئ. والشجرة تقول له: توقف! انني جريحة انزف، كف عن ايذائي؛ ولكنه يصر على ضربها وقلعها “.
وينظر البدوي الى الشجرة نظرة اجلال وتكبير، فهي المصدر الوحيد الذي يمده بالثمار، وتحت ظلها يستريح من الترحال. كما تحتمي بها قطعان الماعز والاغنام من وهج الشمس ومن قرظ الصيف. ولذلك حظيت الاشجار بالتقديس عند بعض القبائل الرعوية في العهد القديم فاقاموا الانصاب تحت ظلالها. وقد تأئر بنو اسرائيل بتلك العبادات الباطلة لذلك كان الانبياء لا يفترون عن نهيهم عما يفعلون(حز6: 2). وعلى النقيض من هؤلاء كان بعض الفلاسفة الاوائل يلقون دروسهم تحت الاشجار.
وحدثنا الوحي عن الشجر في مناسبات كثيرة، فذكر تجليه لموسى النبي على هيئة نار تشتعل في شجرة وهي لا تحترق. وكانت ” شجرة معرفة الخير والشر ” هي الوسيلة التي امتحن بها الله ادم. أما شجرة الحياة (السيد المسيح) التي رآها يوحنا في وسط الفردوس(رؤ2 :7) فهي سبيل خلاصه. وشبه السيد ملكوت السموات بـ ” حبة خردل اخذها انسان والقاها في بستانه فنمت وصارت شجرة كبيرة وتاوت طيور السماء في اغصانها ” (لو13). كناية عن الانسان البار الذي يبذل نفسه من اجل الاخرين فيحظى برضى رب العالمين.
والبشر مثل الشجر منه من يطرح ثمراً جيداً، ومنه من يطرح ثمرأ رديئا، منه ما ينبت عنباً ومنه ما ينبت شوكاً. وكما ان الشجرة تعرف من ثمرها كذلك الانسان من افعاله واقواله لهذا قال السيد المسيح:” لان كل شجرة تعرف من ثمرها فانهم لا يجتنون من الشوك تينا ولا يقطفون من العليق عنبا ” (لو6).
وقال المرنم ان الصديق ” كالنخلة يزهو، كالارز في لبنان ينمو “(مز92)، وانه يكون” كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في اوانه وورقها لا يذبل ” (مز1). وقيل عن يوسف انه ” غصن شجرة مثمرة ” (تك49).
ومصير الشرير في الاخرة سيكون مثل الشجرة غير المثمر التي يُلْقىَ بها في النار ” فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار” (مت3). وقد اعطى السيد المسيح مثالا عمليا لذلك عندما أيبس شجرة تين كانت خالية من الثمار” (مت21) لكي يعلم تلاميذه انه هكذا يكون مصير الانسان الخالي من الصلاح. والذي لا يثمر ايمانه عن عمل الخير فيلقى حتفه مثل الشجرة غير المثمرة.
وفي قصيدة ” التينة الحمقاء ” شبه ايليا ابو ماضي من يعيش لنفسه فقط بشجرة تين كان يشق عليها ان تاوي العصافير في اغصانها ويتنعم البشر من ثمارها، فقررت ان تُفصِّلَ ظلها على قدر نفسها؛ ففقدت الورق والثمر؛ ثم فقدت نفسها عندما جاء البستاني واجتذها ليسعر بها النار، قال ابو ماضي:
وتينة غضة الأفنان باسقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة .. قالت لأترابها والصيف يحتضــــــــــــــــــــــــر
بئس القضاء الذي في الأرض أوجدني .. عندي الجمال وغيري عنده النظــــــــــر
أحبسنّ على نفسي عوارفهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا .. فلا يبين لها في غيرها أثـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
كم ذا أكلّف نفسي فوق طاقتهــــــــــــــــــــــــــــــــا .. وليس لي بل لغيري الفيء والثمــــــــــــــــر
ذي الجناح وذي الأظفار بي وطـــــــــــــر .. وليس في العيش لي فيما أرى وطــــر
إنّي مفصلة ظلّي على جسدـــــــــــــــــــــــــــــــــــي .. فلا يكون به طول ولا قصـــــــــــــــــــــــــــــــــر
ولست مثمرة إلا على ثقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة .. إن ليس يطرقني طير ولا بشـــــــــــــــــــــــــر
عاد الربيع إلى الدنيا بموكبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه .. فازّينت واكتست بالسندس الشجــــــــــــــــر
وظلّت التينة الحمقاء عاريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة .. كأنّها وتد في الأرض أو حجــــــــــــــــــــــــــر
ولم يطق صاحب البستان رؤيتهـــــــــــــــــــــا .. فاجتثّها، فهوت في النار تستعـــــــــــــــــــــر
من ليس يسخو بما تسخو الحياة بـــــــــه .. فإنّه أحمق بالحرص ينتحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
ومؤخرا وقبل ان يفرغ الجهاديون من قطع رؤوس الناس وهدم الاثار اقاموا الحد على شجرة عمرها مائة وخمسون سنة، اخذوها بجريرة الذين اعتادوا على زيارتها بدعوى انهم يعبدونها. والحقيقة ان مرتاديها لا يخرجون عن كونهم إما مؤمنين وإما لا دينيين، وكلا الصنفين لا يعبدون الشجر ولا يبتهلون الى الحجر. فما الضرر من زيارة شجرة على سبيل العادة وليس العبادة ؟ كما ان توقيرنا لدور العبادة لا يعني عبادة الجدران، وان تبجيلنا للرموز الدينية والوطنية لا يعني عبادتها من دون الرحمن.
ان الانسان السوي يتفاعل مع الاشياء الجميلة، سواء كانت من صنع الانسان او من ابداعات الديان. اما غير السوي فلا يحب الطبيعة، ولا يشعر بالجمال. لتحجر قلبه، ولانغلاق عقله فلا يميز بين الانسان والشجر والحجر، ولا تجود شفتيه الا بكلمات خاوية واقوال جافية لا ترقى معانيها الى اغنية ” يا طالع الشجرة “.