قليني نجيب يكتب: لغة القداسة لا قداسة اللغة

يقول جون هامرتين في (تاريخ العالم) ” اننا اذا حاولنا ان نعرف منشأ اللغات فلن نجد امامنا سبيلا سوى الحدس واالتخمين .. وان من الخطأ ان نتوقع وجود اصل واحد للغة.. وقد يكون بين بعض اللغات صلات من القربى ولكنها تفترق على مر الزمن “. ومع هذا فاننا نعتقد ان الناس قبل الطوفان كانوا يتكلمون لغة واحدة عندما كانوا يعيشون في نطاق محدود من الأرض المعمورة انذاك، ولم يكونوا قد تفرقوا بعد ولا ذهبوا الى مجاهل القارات. ولكن هذه اللغة قطعا غير معروفة وليست هي واحدة من اللغات التي نشأت بعد ذلك.
واشار ابو الفدا في )المختصر) الى ان الناس قبل الطوفان كانوا يتكلمون العبرية وان عابر لم يوافق بني نوح ” واستمر على طاعة الله تعالى، فبقاه الله تعالى على اللغة العبرانية، ولم ينقله عنها “. وخلافا لما قاله ابو الفدا، نقل ابن العبري عن غيره أن الناس من ادم الى عابر كانوا يتكلمون لغة واحدة هي السريانية. وقال ايضا نقلا عن شخص يدعى يعقوب الرهاوي، ان اللغة لم تزل عبرية الى ان تبلبلت الالسن في بابل.
وهذه اقوال ظنية لا تستند الى دليل علمي مقتع. لان بلبلة الالسن تعني ان الناس باتوا يتحدثون لغات مختلفة عما كانوا يتحدثونه من قبل. كما ان اللغات التى نشات بعد الطوفان، لم تنشا بكل مفرداتها دفعة واحدة. ولم تكن بالثراء الذي الت اليه بعد قرون من التطور والتفاعل الحضاري بين الانسان وبيئته من جانب، وبين الشعوب وبعضها من جانب اخر. وقد كانت اللغات في مهدها بسيطة ومحدودة للغاية، تناسب الحياة البدائية التي كان الناس يعيشونها في ذلك الحين.
ويمكننا ان نفسر التشابه بين بعض اللغات وبعضها الاخر على اعتبار ان الشعوب خرجت من اصول ثلاث هم ابناء نوح؛ وانها لم تستمر في العزلة والتباعد عن بعضها مدى الدهور؛ بل كانت تتقارب فيما بينها عن طريق الهجرات الجماعية والفردية، وعن طريق الغزوات والحروب الاستعمارية. وكثيرا ما كانت تنصهر الشعوب الغالبة والمغلوبة فيما بينها ايضا، ومن ثم تنشأ عن اندماجها لغات ولهجات جديدة. كما نشأت القبطية عن تفاعل المصريين مع الاغريق الذين غزوا مصر ايام الاسكندر. والاسبانية عن اندماج اللاتين مع الوندال، والالمانية عن اندماجهم مع الجرمان.. الخ. كما لا تعبر اللغة عن العرق في جميع الاحوال ففي بلاد المغرب يتحدثون الفرنسية ولكنهم ليسوا فرنسيين. وفي مصر لا يلغي تحدثنا العربية كوننا مصريين حتى النخاع، فقد ذابت الجيوش الغازية التي كانت تقدر بالالاف في الاكثرية المصرية التي كانت تقدر بالملايين، وتجنس الوافدون من العرب والمغاربة والاتراك والمماليك وغيرهم بجينات السكان الاصليين.
واللغة نتاج العقل، وما هي الا اداة نستعملها للمدح كما نستعملها للذم. بها نبارك الله وبها نلعن الناس. بها نقول الصدق ونعلن الحق؛ وبها نتملق ونقول الكذب. بها نمدح ونجامل وبها ننتقد ونماطل. بها نتواضع ونتدانى، وبها نتغطرس ونتعالى. بها نبرر الاشرار، وبها ندين الابرار. بها نَصْدُق ونصون، وبها نخدع ونخون. بها نعبر عما يجول بخاطرنا من افكار ومشاعر انسانية، وبها نعبر عن احساسات جسدانية ونزوات بهيمية. بها يمدنا المفكرون برؤى انسانية مضيئة؛ وبها ينضح علينا اخرون بآراء ظلامية مشينة.
باللغة ندافع عن الحق، وبها ندافع عن الباطل كما يفعل المتسفسطون فيقنعون الناس اليوم بالامر وغدا بنقيضه. وباللغة ايضا نافق الشعراء السلاطين والحكام على حساب الرعية. وبها هجا بعضهم بعضا بكلمات نابية، مما يخدش الحياء، ومما يقال في مجالس اللهو والبغاء؛ وما لا يليق ذكره بمقالي، ولا بمقام السادة القراء.
وباللغة يعبر الناس عن ايمانهم، وبها يعبرون عن الحادهم. بها يقول الوحي “ان الرب هو الاله في السماء من فوق وعلى الارض من اسفل ليس سواه ” (تث4)؛ وبها قال الشيطان:” اصعد فوق مرتفعات السحاب اصير مثل العلي ” (اش14). وبها ايضا ” قال الجاهل في قلبه ليس اله ” (مز14).
وباللغة تغنى الشعراء بالفضائل والقيم الانسانية. وبها انشدوا كلاما طيبا لتمجيد العزة الالهية، كما عبرت عن ذلك رابعة العدوية، قالت:
يا حبيب القلب ما لي ســـواك ** فارحم اليوم مذنبا قد أتــــــاك
يا رجائي وراحتي وســـروري ** قد أبى القلب أن يحب سواك
فليتك تحلو والحياة مــــــــــــــــريرة ** وليتك ترضي والأنام غضـــاب
إذا صح منك الود فالكل هين ** وكل الذي فوق التراب تـــراب
واللغة الكلامية تفضح صاحبها وهي اسهل طرق التعبير؛ ولكنها ليست الوسيلة الوحيدة للاتصال والتواصل مع الاخرين، فهناك الايماءات والاشارات التي يستعملونها لكافة الاغراض الحسنة والسيئة. وعلى هذه ايضا يقدمون حسابا يوم الدين؛ اما اللغة فلا تثاب ولا تعاقب، وانما يثاب الناس ان احسنوا الكلام، ويعابوا ان اساءوا التلفظ به، ” لانك بكلامك تتبرر وبكلامك تدان ” (مت12).
واللغة لا تستعمل فقط لاظهار ما نبطن، ولكنها تستعمل ايضا لاخفاء ما لدينا من افكار ومعتقدات ونوايا. ولذلك يلجأ المختصون بعلم السلوكيات الى قراءة حركات الجسد وتاعبير الوجه التي تفضح صاحبها وتعبر عن حقيقة ما تخفيه اللغة الكلامية. من نوايا عدوانية ورغبات وجدانية.
واللغة ليست وحياً مقدساً نرتله ونتعبد له؛ وليست حاكما نخلع عليه حلة الملك وتاج الرياسة؛ ولا تابوها ننسج حوله هالات القداسة؛ ولكنها اختراع انساني بحت، ونتاج عقلي محض. هي وسيلة لحفظ التاريخ ولنقل العلوم وللتواصل بين الناس. ويمكن للانسان ان يتعلم غيرها من اللغات؛ ويضع ثقافته في قالب لغوي جديد. أما اننا نجعل منها صنما نتعبد له، ومعبودا نتغنى بأوصافه، ونغلق عليها وعلينا باب العزلة؛ ولا ننفتح على لغات العالم الذاخرة بالمفردات والمصطلحات العلمية فسنظل كما نحن نستورد ونستهلك ونقلد. ولا نقدر بلغتنا الثرية ادبيا والفقيرة علميا على اللحاق بخطى الانسانية وبركب التقدم المنتج والمكتفي، بل نظل طيلة الدهر نعدوا وراءه لنأخذ منه الفتات الذي يتساقط من مائدة اربابه.
ولا يمكننا ان نقول بان هناك لغة مقدسة واخرى مدنسة؛ فما اللغة الا اداة للتفاهم بين الناس وللتعبير عما تنتجه عقولنا من افكار بناءة واخرى مدمرة، وما يختلج وجداننا من مشاعر سامية واحاسيس دانية. فاللغة مثل الاناء الذي نضع فيه السم المميت كما نضع فيه الدواء الشافي. والمقدس والدنس هو المضمون وليس الشكل، الجوهر وليس العَرَضْ، الصورة وليس الاطار. وهي هنا تشبه الهواء الذي ينقل الينا كل ما يمر به، فننتشي عندما ينقل الينا عبق الازهار والورود والرياحين كما يثير فينا الاشمئذاز والتأفف عندما ينقل الينا ما تبعث به جيف التخلف من مخلفات الدهور والسنين.