قليني نجيب يكتب: أكْرَمُ الأعاجم

كانت مصر مطمعاً للغزاة على مر تاريخها، فغزاها البابليون والاشوريون والفرس والاغريق والرومان والعرب والاتراك وغيرهم، طمعاً في ثرائها وخيراتها. فقد كانت جنة الله على الارض. وصدق على ذلك كعب الاحبار بقوله ” من اراد ان ينظر الى شبه الجنة، فلينظر الى مصر اذا ازهرت “. وقال ابن اياس في(بدائع الزهور) عن غيره:” قسمت البركة عشرة اجزاء، ففي مصر تسع، وفي الارض كلها واحد “. وقال ايضاً ان: ” مصر خزائن الارض كلها، ولو زرعت كلها لوفيت بخراج الدنيا بأسرها “. وعن كرم شعبها، قال عبد الله بن عمرو: ” قبط مصر اكرم الاعاجم كلها، واسمحهم يدا، وافضلهم عنصرا “.
والى فضل مصر في اطعام الشعوب المجاورة، ذكر لنا سفر التكوين ان خليل الله نزل ارض مصر لان الجوع في ارض كنعان كان شديداً. وحدثنا ايضاً عن المجاعة التي وقعت في ايام يوسف الصديق. وشاءت عناية الله ان تطعم مصر جيرانها وعلى رأسهم يعقوب وبنيه. وفي العصر الروماني كانت مصر سلة غلال الرومان على مدى سبعة قرون. وفي العصر العربي امدت مصر العرب بالمال الجزيل وبالخيرات الوفيرة. فذكر ابن عبد الحكم في (فتوح مصر واخبارها): ” ان الناس بالمدينة اصابهم جهد شديد في خلافة عمر بن الخطاب في سنة الرمادة. فكتب الى عمرو بن العاص وهو بمصر: من عبد الله عمر امير المؤمنين … فلعمري يا عمرو ما تبالي اذا شبعتَ انت ومَن معكَ ان اهلكَ انا ومن معي، فيا غوثاه ثم يا غوثاه يردد قوله. فكتب اليه عمرو بن العاص: لعبد الله عمر امير المؤمنين من عمرو بن العاص اما بعد: فيا لبيك ثم يا لبيك. قد بعثت اليك بـ عير اولها عندك وآخرها عندي والسلام عليك ورحمة الله. فبعث اليه بعير عظيمة فكان اولها بالمدينة واخرها بمصر يتبع بعضها بعضا. فلما قدمت على عمر وسع بها على الناس ودفع الى اهل كل بيت بالمدينة وما حولها بعيرا بما عليه من الطعام.. “.
وكان على المصريين ان يؤدوا الجزية للفاتحين الجدد. وكانت تجبى ايام عمرو بمقدار اثنتي عشر مليون دينار، فيقول ابن عبد الحكم: ” فكان جميع من احصي يومئذ بمصر اعلاها واسفلها من جميع القبط فيما احصوا وكتبوا ورفعوا اكثر من ستة الاف الف نفس، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر الف الف دينار في كل سنة “صـ 55. و ” وجباها عبد الله بن سعد حين استعمله عليها عثمان اربعة عشر الف الف فقال عثمان لعمرو: يا ابا عبد الله درت اللقحة باكثر من درها الاول, قال عمرو: اضررتم بولدها “.
ومع الجزية كان على المصريين اداء الخراج، ” ومن كل اهل مصر فأردب كل شهر لكل انسان لا ادري كم من الودك والعسل وعليهم من البز والكسوة التي يكسوها امير المؤمنين الناس “. كما كان عليهم اضافة من ينزل عليهم من العرب ” ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين او اكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة ايام مفترضة عليهم “.
وفوق ذلك كان الولاة يصادرون اموال الاغنياء وكنوزهم، ومنه ما قاله ابن عبد الحكم: ” ان عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر: ان من كتمني كنزا عنده فقدرت عليه قتلته “. وقال ان شخصا يدعى بطرس انكر كنزا كان يخفيه تحت فسقية، فحبسه عمرو حتى عرف مكان الكنز، فوجد فيه ” اثنين وخمسين اردبا ذهبا مضروبة. فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد. فذكر ابن ابي رقية ان القبط اخرجوا كنوزهم شفقا ان يبغي على احد منهم فيقتل كما قُتل بطرس “- صـ 65.
وكان المصريون الساعد الايمن للعرب، فـ ” اصلحوا لهم الطرق واقاموا لهم الجسور والاسواق.. “. وكان اصحاب الحرف يغزلون وينسجون ويحيكون الملابس ويدبغون الجلود ويصنعون الاحذية ويصهرون المعادن ويشقون المصارف ويبنون الدور والجسور ويفلحون الارض فكانوا هم الثروة الحقيقية للبلاد. وعندما طلب الخيلفة من عمرو ان يحتفر خليجاً يصل النيل بالقلزم، في مدة لا تتجاوز العام، وفشل عمرو في اثناء امير المؤمنين عن ذلك لما سيقع على المصريين من اضرار، فانه شرع في تنفيذ الامر وحفر المصريون الخليج الذي نقل خيرات بلادهم الى الاخوة العرب، يقول ابن عبد الحكم: ” .. فلم يات الحول حتى جرت السفن فحمل فيه ما اراد من الطعام الى المدينة ومكة فنفع الله بذلك اهل الحرمين..”.
ويمكننا ان نتخيل ما بذله المصريون من جهد كثير، ومن مال وفير في حفر الخليج قبل حلول العام، مقارنة بما بذلوه بعد ذلك بثلاثة عشر قرنا عندما حفروا قناة السويس في عشرة اعوام، ومات منهم عشرون الف شخص.
وفي العصرين الاموي والعباسي كانت جزية وخراج المصريين خاصة هي المصدر الرئيسي لخزانة الدولة. وكانوا ينفقون منها على تسليح الجيوش وعلى الاعمال الانشائية، وفي الجود على اهلهم وذويهم، وعلى من يمتدحونهم من الشعراء ومن يفقهونهم من العلماء. كما كانت تصرف مرتبات للعرب – فقط لكونهم عرب – من خلال ديوان الاعطيات، وقد بلغ عدد المقيدين بالديوان ” في زمان معاوية اربعين الفا ” .
وبلغ ثراء بني ابي العباس، ان المأمون اشترى مغنية تدعى عريب بمائة الف دينار. كما كانوا ينفقون منه على اهل مكة والمدينة، ومنه ما ذكره ابن كثير في (البداية والنهاية)، قال: ” قال هشام بن عروة عن أبيه قال بعث معاوية إلى أم المؤمنين عائشة بمائة ألف ففرقتها من يومها فلم يبق منها درهم .. قدم الحسن بن على على معاوية .. فأعطاه أربعمائة ألف ألف.. وقال أبو مروان المروانى بعث معاوية إلى الحسن بن على بمائة ألف فقسمها على جلسائه وكانوا عشرة.. وبعث إلى عبد الله بن جعفر بمائة ألف .. وبعث إلى ابن عمر بمائة ألف.. وبعث إلى عبد الله بن الزبير بمائة ألف .. وقال ابن دآب كان لعبد الله بن جعفر على معاوية فى كل سنة ألف ألف(درهم)… “.
واشار ابن كثير الى ما تركه البعض من الرعيل الاول من ثروات عند رحيلهم، فبلغت مئات والاف الالوف من الدراهم والدنانير. فضلا عما كان يجنيه الولاة والحكام من ثروات طائلة، جعلت بعض الخلفاء يعزلون من فحش ئراءه.
واذا كان الاخوة العرب قد قدموا لمصر سهما من المساعدة في ازمة اقتصادية عابرة، فلا يقارن سهمهم بالقناطير المقنطرة التي قدمها لهم المصريون- وغير المصريين – عبر تاريخ طويل. فكان المصريون يكدون ويعملون، والحكام وزويهم ينفقون ويستهلكون. كما قال عمرو: ” إنما أنتم خزانة لنا، إن كُثِّر علينا كَثَّرنا عليكم، وإن خُفِّف عنا خففنا عنكم”. كان المصريون يربون الخيل ولا يسمح لهم الا بركوب الحمير، يصهرون الذهب ولا يملكوه، يصنعون السيوف ويحرم عليهم حملها. وبعد كل ذلك، كان يختم بالرصاص في رقاب اكرم الاعاجم وخير اجناد الارض.