قليني نجيب يكتب: الوجود والذات بين المسيحية والالحاد

ينظر المشتغلون بالفلسفة الى ديكارت على انه رائد الوجودية المثالية. وقد بدأ ديكارت منهجه بالتخلي عن كل ما لدينا من افكار ومعتقدات سابقة، والعودة بالعقل الى حالته الاولى كصفحة بيضاء. ثم افتراض الشك في كل شئ، بما في ذلك الوجود ذاته، وعدم تصديق اي شئ قبل فحصه من كافة جوانبه، ومن ثم التأني في اصدار الاحكام.
وقال ديكارت انه يمكنه الشك في كل شئ، فيما عدا الشك ذاته، ولما كان الشك هو عمل الفكر، اذا فان الفكر هو الحقيقة الوحيدة الموجودة التي يمكن الاعتراف بها ولا يمكن الشك فيها. ومن ثم فقد اقتصر وجود الذات عنده على احد جوانبها، وهو الفكر. وقد صاغ تصوره هذا في مقولته الشهيرة ” أنا أفكر إذا فأنا موجود “، و “انا اشك اذا انا موجود ” وهو يريد ان يقول انه ان شك في كل ما هو موجود، فلا يمكنه ان يشك في انه يشك، اي لا يشك في عملية الشك نفسها، ولما كان الشك هو فعل العقل، فلذلك عرفت فلسفة ديكارت بالمثالية، ووجوده بالوجود المثالي، في مقابل الفلسفة المادية الحسية.
وبينما يقتصر الوجود الذاتي عند ديكارت على الفكر، نجد اخرين قد احالوه الى حالات شعورية اخرى كالارادة والتغير والعاطفة. فيرى (مين دي بيران) ان الارادة هي الفعل الدال على الوجود، ” انا اريد اذا انا موجود “.
يقول دي بيران منتقداً وجهة نظر ديكارت: ” إذا كان ديكارت قد اعتقد إنه وضع المبدأ لكل علم والحقيقة الأولى البينة بنفسها بأنه قال أنا أفكر فأنا إذن شيء أو جوهر يفكر، فإننا نقول خيرا من هذا وبطريقة حاسمة، معتمدين على بيِّنة الحس الباطن الذي لا يقبل الاتهام: أنا أفعل، وأريد، أو أفكر في ذاتى في الفعل، إذا أنا عله إذا أنا موجود. او أوجد حقاً على صورة علة أو قوة “.
ويرى هنري برجسون في ” التطور الخالق” أن الشعور بالوجود يكمن في الاحساس بالديمومة الناشئة عن التغير، ” أنا أتغير إذن أنا موجود “. ويعلل ذلك بقوله: ” اننى ألاحظ أولاً أنني انتقل من حال إلى حال، فأنا أشعر بالحر أو أحس البرد، وقد أكون مبتهجاً أو حزيناً، وقد أعمل، أو لا أقوم بعمل ما، أو ألاحظ ما يحيط بى، أو أفكر في شئ آخر. فالإحساسات والعواطف والإرادات والتصورات هي التي تتقاسم وجودى والتى تلونه كل منها بلون خاص واحدة بعد أخرى فأنا إذا في تغير مستمر “.
ورغم اختلاف أراء الفلاسفة في تحديد معالم الوجود الذاتي، إلا أنها تسير نحو غاية واحدة هي وصف الحالات الشعورية والادراكية التي تمر بها، واعتبارها الشاهد على وجود الفرد. وقد لاحظنا تنوع المظاهر الشعورية الوجودية ما بين الفكر عند ديكارت، والإرادة عند دي بيران، والتغير عند برجسون، والعاطفة عند غيرهم. وقد وفق كل فيلسون في رسم صورة لهذا الوجود الذاتي بحسب الزاوية التي تناولها بالوصف. أما كيف يروق للفلسفة عموماً أن تبعث الحياة في هذه الصورة بما يشتمل عليه معنى الحياة من إثراء وبقاء يضمن للذات وجودها المستمر، فهذا ليس من عمل الفلسفة. نعم هي تصف لكنها لا تخلق. إن هذا النقص في الفلسفة تكمله المسيحية. فالوجود الذاتي في المسيحية يعد بدهية، بخلاف الفلسفة التي تبحث في إثباته بطريقة استدلالية تتضمن مقدمة ونتيجة تفصلهما كلمة ” اذن “. والوجود في المسيحية متحقق ليس في الفكر فحسب ولا في الإرادة وحدها، وإنما في الإنسان بوصفه وحدة واحدة. وقد استمدت الذات وجودها من الله الذي خلقها على صورته ومثاله(تك 1: 26) من حيث الارادة والخلود.
لكن هذه الذات المفردة لا تقوم بذاتها رغم انفصالها وتمايزها عن الذات الكلى (الله)، بل تستمد وجودها منه. فهذا هو سر وجودها وضمان بقائها في أن تظل متصلة به. وفي انفصالها عن الله تفقد ماهيتها ووجودها. ففي اللحظة التي انفصلت الإرادة الفردية عن الله ” يوم تأكل منها (من الشجرة)”، فقدت هويتها ” موتاً تموت ” ( تك 2: 18). وهو ما عبر عنه القديس اثناسيوس في (تجسد الكلمة) بقوله: ” لأنهم إن كانوا بحضور (الكلمة) وتعطفه قد دعوا إلى الوجود من الحالة الطبيعية الأولى وهى عدم الوجود، فإنهم بطبيعة الحال متى تجردوا من معرفة الله عادوا إلى العدم (إلى ما لا وجود له) لأن كل ما هو شر فهو عدم، وكل ما هو خير فهو كائن وموجود. ويجب أن تكون النتيجة بطبيعة الحال الحرمان إلى الأبد من الوجود طالما كانوا يستمدون وجودهم من الله الموجود بذاته، وبتعبير آخر يجب أن تكون النتيجة الانحلال وبالتالي البقاء في حالة الموت والفساد”.
ولذلك فإن الوجود الذاتي يتقاسمه طرفان: أحدهما ثابت هو من جانب الله الذي أحب الإنسان وأوجده، والطرف الأخر هو الذات نفسها، إذا حافظت على بقائها في معية الله من خلال محبته وطاعته ” أن أحبنى أحد يحفظ وصاياي”.
ولكن لما انقطعت العلاقة بين الذات وخالقها، فقدت وجودها؛ لكن الله من جانبه أعاد الوجود للإنسان مرة ثانية، ” لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ” (يو 3: 16). وبهذا عادت الذات من الفساد إلى الوجود. ولكي تضمن الاستمرار والثبات على هذا النحو، فعليها أن تسير في معية خالقها.
من هنا يمكن أن نضع معادلة الوجود على نهج السابقين ووفق المفهوم المسيحي له هكذا: ” أنا أؤمن فأنا موجود “. وبعبارة أخرى: ” أنا أؤمن واسير في معية الله، فأنا موجود”. ولا يتأتى للإنسان أن يشعر بذاته وبوجوده بعيداً عن الله “. كما يقول أغسطينوس: ” يارب خلقتنا لك ولن تجد نفوسنا راحتها إلا فيك “.
إن إثراء الذات يكون في تسليم الإرادة الفردية إلى الإرادة الإلهية. وكلما تخلص الفرد من الذاتية الوجودية القائمة على ألاستحواذ، كلما شعر بوجوده.
هنا الوجود الحقيقي الحي والدائم الذي يكتمل الإحساس به وتتحقق صورته الكاملة في البذل كقول السيد المسيح ” من وجد حياته يضيعها ومن اضاع حياته من اجلي يجدها” (مت 10 : 39).
ففي إفناء الذات إيجاد لها، وقد قال له المجد ” من امن بي ولو مات فسيحيا ” (يو25:11). أي لا ينقطع وجوده بالموت. بعكس الوجود الفلسفي الذي يتوقف دون ريب وينقطع بالموت، او على حد تعبير احدهم ” فلا تقف الحركة إلا إذا وقف تحقيق الإمكانيات، هذا لا يكون إلا في الموت”.
الحق أن فهم الوجود وفق عقيدة الخلاص، وعدم الوجود وفق الخطيئة والبعد عن الله، من شأنه أن ينقذ الفكر والانسانية من شطحات الوجودية الالحادية التي لا تفعل شيئاً سوى أن تقدم وصفاً للوجود الذاتي ولا تحققه. كما انها لا تقدم ضامناً لاستمراره ابدا…