قليني نجيب يكتب: موت وحياة

خلق الله آدم من تراب الارض، وأسكنه جنة الخلد، ولم يشأ ان يكون وحده بالخلاء فقَدَّ من جنبه حواء، “.. واوصى الرب الاله ادم قائلا من جميع شجر الجنة تاكل اكلا. واما شجرة معرفة الخير والشر فلا تاكل منها لانك يوم تاكل منها موتا تموت .. فقالت الحية للمراة لن تموتا.. فاخذت(حواء) من ثمرها واكلت واعطت رجلها ايضا معها فاكل. فانفتحت اعينهما وعلما انهما عريانان فخاطا اوراق تين وصنعا لانفسهما مازر .. فنادى الرب الاله ادم وقال له اين انت .. فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لاني عريان فاختبات.. فقال الرب الاله للحية لانك فعلت هذا .. على بطنك تسعين وترابا تاكلين كل ايام حياتك .. واضع عداوة بينك وبين المراة .. وقال للمراة تكثيرا اكثر اتعاب حبلك بالوجع تلدين اولادا .. وقال لادم .. بعرق وجهك تاكل خبزا حتى تعود الى الارض التي اخذت منها لانك تراب والى تراب تعود .. “(تك3).
وصدق القران الكريم على ما أُنزل على موسى بما جاء بسورة الاعراف قوله: ” وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ. فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ .. فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ .. قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ. قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ” (الاعراف19- 25).
ووفقاً للنص التوراتي، كان الطرد من الجنة أحد تداعيات المعصية؛ لكن حكم المخالفة، كان الموت. والله لا يغير حكمه، فلا يتوعد آدم بالموت في حال المعصية، ثم يغير قضاءه ويكتفي فقط بطرده من الجنة! لان قضاءه مبرم وواجب النفاذ. ولو كان الله قد عفى عنه وسامحه لكان قد ابقاه في الجنة ولما طرده منها، ولما اكتنف البشرية العناء والبلاء وسفك الدماء.
وعندما خالف الانسان أمر الله، مات روحياً وأدبياً بانفصاله عنه، وفقد النعمة التي كانت تربطه بخالقه، ودبت فيه مظاهر الموت كما الشجرة التي ينقطع عنها الماء فتذبل وتجف وتموت بعد حين.
ولم يكن آدم يحياً سعيداً في الجنة لانه كان يأكل ما طاب له من ثمارها، ويشرب من صفي انهارها؛ بل لانه كان يتقوت بمحضر الله، ويرتوي بنعمته، ويكتسي ببره. وها هو الآن أمسى مطروداً من محضر العزة الالهية.
ولكن الله رحيم ومطلق الرحمة، فكيف لا يعفو عن آدم ؟
لا يعفو عنه لانه مطلق العادل والحق. وقد سبق وحذره: ان خالفت ستموت؛ فإن مات آدم وجرى فيه حق العدل، انتفى حق الرحمة؛ وان عفى عنه وتركه، إنتفى حق العدل؛ وحاشا لله ان ينقص من عدله ومن رحمته شئ. اذاً فما هو الحل ؟ وللاجابة على السؤال، نعرج قليلا الى قصة ابراهيم.
في أضحية ابراهيم، قال له الرب: ” خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق واذهب الى ارض المريا واصعده هناك محرقة “(تك22). فأطاع ابراهيم الله، وربط وحيده الذي اتاه بوعد بعد كبر، وهَمَّ يذبحه؛ لكن اتاه صوت من السماء يقول له ” لا تمد يدك الى الغلام ولا تفعل به شيئاً .. فرفع ابراهيم عينيه ونظر واذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه فذهب ابراهيم واخذ الكبش واصعده محرقة عوضاً عن ابنه “(تك22).
ولم يكن امر الله لابراهيم بذبح ابنه لامتحانه فقط، والا لما كان هناك داع لذبح الكبش عوضاً عنه. ولكن كان للحدث دلالة اخرى. ولم يكن ابراهيم هو اول من ذبح اضحية، فعندما عصى آدم وحواء الرب، وتعرا من البر فشعرا بعري الجسد، ان الله البسهما أقمصة من جلد الحيوان، اي انه علمه ان ذبح الحيوان هو للتكفير عن الاثم. وظل هذا التقليد سارياً منذ ذلك الحين، ففعله هابيل، ونوح وملكي صادق وابراهيم وباقي الانبياء. وانتشرت شعيرة الاضاحي عند شعوب العالم القديم حتى لدى الذين انصرفوا الى عبادة الاصنام.
ووفقاً للشريعة الموسوية، كان على المضحي أن يضع يده على رأس الضحية ويقر بذنبه، فينتقل – رمزياً – الاثم الى الاضحية التي ينفذ فيها حكم الموت عوضاً عن الانسان، وكأن الاضحية حملت ذنب المضحي بها، فتتحق الرحمة وينجو الانسان، ويتحقق العدل وتموت الاضحية. لان اجرة الخطيئة هي موت (رو6).
ولكن هل يتحقق العدل حقاً عندما يموت الحيوان عوضاً عن الانسان ؟ فالحيوان ادنى منه مرتبة، والعدل يقتضي ان يكون المُضَحَّىَ به مساويا للمُضَحَّىَ عنه او أعلى منه، وان يكون خالياً من الأثم وغير واقع تحت حكم الموت، ويملك نفسه وارادته. واذا كان الامر هكذا فلماذا امر الله موسى النبي ان يقرب الكباش، اذا لم تكن كافية لفداء الانسان ؟ وبخاصة ان الله ليس الها دموياً فلا يستطيب ذبح الحيوان؛ ولا يرتشي بصك غفران؛ لكن الانسان هو الذي جلب على نفسه حكم الموت، ولابد ان يجرى عليه العدل وينفذ فيه الحكم.
ولم يكن تقريب الحيوان كافياً لفداء الانسان، بيد انه كان رمزا للفداء الكفاري الذي قدمه السيد المسيح بموته، ذلك هو الذبح العظيم الذي تجسد لاتمام الفداء الكفاري عن العالم اجمع. ولم يكن يصلح له احد غيره. وهو ما يفسر لنا لماذا اختلف السيد المسيح عن البشر والرسل والانبياء في اشياء جوهرية وخطيرة: فهو وحده الذي ولد من عذراء تم اصطفاؤها ورفعها فوق نساء العالمين. وربما يقول قائل ان آدم لم يولد من زرع بشر؛ ولكن آدم كان اول البشر فلم تكن هناك وسيلة لايجاده غير الخلق. أما ولادة المسيح فكانت كسراً للقانون الطبيعي الذي كان سارياً في كل بني آدم. وهو الوحيد الخالي من الاثم؛ وهو الوحيد الذي مات، وقام، وأقام الاموات بسلطانه وبارادته؛ وهو الوحيد الذي سياتي يوم الدين ديانا للعالمبن؛ وهو الوحيد الذي وصف بأنه ” كلمة الله “(يو1) وكلمة الله ليس لفظة من الفاظ الوحي ولكنه علم الله الذاتي. وعلم الله ليس ادنى من ذاته، ولم يمضي على ذاته وقت كان بغير علمه وبدون روحه. واذا كان المسيح – من جهة ناسوته – قد قام بدور الرسول والنبي لانه أنبأ بالغيبيات، وابلغ ببهي الرسالات، لكنه من جهة لاهوته هو كلمة الله الذي تجسد (تمثل بشرا) في ملء الزمان لفداء الانسان؛ فقدم للبشرية فداءاً ابدياً، ” ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه “(عب9). ” لانه ونحن بعد خطاة مات المسيح لاجلنا ” (رو5). ثم قام من الموت وأقامنا معه وأجلسنا في السماويات(اف 2). حيث يوجد ” ما لم تر عين ولم تسمع اذن ولم يخطر على بال انسان ما اعده الله للذين يحبونه “(1كو2)