إيليا مقار يكتب: من مجموعة “الحياة داخل باسبور أزرق” .. قصة لم يكتبها إبسن

قصة لم يكتبها إبسن
الجزء الأول
جلست سارة في المكان المخصص للإنتظار خارج “غرفة الإعتراف” تعقد رجليها وتعتصر أصابعها كتاباً تطويه وكأنها تتشبث بمحتواه الذي دفعها لهذه الحافة. كان ما بين يديها هو نص لمسرحية “بيت الدمية”.. المسرحية التي كتبها النرويجي هنريك إبسن عام 1879. كان غلاف الكتاب العتيق يحمل، تحت أسم المسرحية، إسم “مكتبة الطلبة” . كانت المكتبة تبيع للطلبة نسخ مقلدة للكتب بثمن زهيد يناسب حال معظمهم خاصةً طلبة كلية الأداب التى عادة ما تكون أسعار كتبهم المستوردة باهظة الثمن. كان ذلك في أوائل التسعينيات من القرن الماضي عندما إلتحقت بجامعة القاهرة لدراسة الأدب الإنجليزي.
منذ درست سارة المسرحية وهي تشعر برابط قوي بينها وبين “نورا” بطلة المسرحية، تلك الفتاة الجميلة المتفانية في خدمة زوجها وأولادها الثلاثة والتى تكتشف مع أحداث المسرحية أنها الزوجة المدللة طالما أطاعت، والأمنة طالما خضعت، وعندما ظن زوجها خطاً أنها قد أخطأت في حقه، سقط قناع الحب لتكتشف نورا أنها عاشت حياتها دمية في بيت زوجها كما كانت دمية في بيت أبيها.. وتقرر نورا التمرد على دور الدمية وتتحدى تقاليد المجتمع الذى كان -في ذلك الوقت- يرى أن البيت هو المكان الطبيعي للمرأة، وأن إنفاصل المرأة عن زوجها هو دليل على سوء سلوكها. وفي مشهد النهاية، إختارت نورا الإنسان أن تسحق نورا الدمية وهي تخبر زوجها بأنها ستخرج ولن تعود.. وتخرج نورا وتغلق الباب خلفها، ليصدر صوتاً يزلزل ذكورية أوربا كلها في ذلك الوقت.
عشقت سارة تمرد نورا ورأت فيها إنعكاس لشخصيتها، قررت وقتها أن تبدأ من حيث إنتهت نورا، ألا تكون ملك لأحد، أن تعيش تفردها. كانت في الجامعة تلك الفتاة الجميلة المتمردة المنطلقة، كانت سعادتها في أن ترى أنظار الإعجاب من الجميع، الكل يرنو إليها دون أن يحظ أحد بشرف الوصول. فقط سامح، ذلك الشاب المتعلق بأهداب المجموعات الماركسية في الجامعة، كان هو الشخص الوحيد الذي أدخلته الى قلبها وعالمها. لم تكن تبالي بأفكاره المتحمسة عن الفقراء والأغنياء وعدالة توزيع الثروة، كانت تبهرها حماسته دون أن تقتنع بأفكاره، ربما رأت أن إقتناعها بأفكاره هو تنازل منها عن تمردها ولم تكن مستعدة لذلك.
تنبهت الى أصابع تلمس كتفها برفق:
-مدام سارة، أبونا قدامه أعتراف واحد وبعد كده هييجي دور حضرتك.
هزت رأسها في إمتنان دون أن تنطق.
إقتربت الساعة من الثامنة مساءاً والمكان يعج بالناس. تتحول الكنيسة الى ناد يتجمع فيه المصريون ليمارسوا فيه مصريتهم بإفراطٍ أحياناً. نظرت الى هاتفها. إتصل زوجها عدة مرات وأدركت أنها لم ترد فإتصلت به. جاءها صوته
– مبتروديش ليه يا بيبي؟
– أسفة مسمعتش. أنا في الكنيسة هقابل أبونا وأروح
قهقه ثم قال
– “ربنا يهديكي علينا” ثم إستطرد “البت هترجع البيت ايمتي؟”
– 100 مرة قولتلك مش اسمها البنت. ماجي عندها 23 سنة دلوقتي. هي لسة في تكساس عند صاحبتها. مش هترجع قبل الجمعة
– حلو أوي. بصي؟ عاوز أروح ألاقيكي موهوجة وملعلطة كدة. متعمليش أكل، انا هخلص شغل في فرع الديلر وهجيب عشا والنبيت اللي بتحبيه. الليلة ليلتك يا صرصور ههههه
أبعدت الهاتف بقرف عن أذنها ثم أعادته وقالت
– باي
لملمت سارة أطراف فستانها القصير – أحد منتجات جورجيو أرماني الباهظة الثمن- وضمته بغضب تحت رجليها. كيف بدأت حياتها كـ “نورا” الثائرة فقط لتجد نفسها الأن “نورا” الدمية في فستان أنيق وأكسسوارات باهظة. تجاهلت صوت ينبعت داخلها لشاب إشتراكي مجعد الشعر يذكرها بأن الأنسان هو حاصل جمع إختياراته مضروبة في عدد الأيام التى يحياها. كانت لتتزوجه لو كان لديه خطة لحياته غير اللهث وراء مبادئ لحماية مجتمع لا يأبه به أصلاً. تتذكر مشهد النهاية الذي جمعها بسامح عندما قررت ان تتزوج الشاب الثرى الذي يعيش في الولايات المتحدة. كانت تعتبر السفر فصل من فصول التمرد على المألوف… صفعة الباب التى تعلن بها “كلايماكس” الحدوتة وقمة أداءها لدور نورا وسط تصفيق حاد من جمهور لم يحضر العرض سوى في خيالها فقط.
هذا الحضن الأخير الذي جمعها بسامح مازال يقتلها. لا يبكي الرجل إلا بين يدي أمرأة يعشقها. عجيب أمر هذا الحضن وقت الفراق. هو لحظة يقبل فيها العاشقان أن يكون الألم هو الدليل القادم على إستمرار الحب.. هو لحظة إعلان هزيمة الحلم على يد “الظروف” .. قال.. بل لحطة هزيمة الحب على يد الحياة.
أربعة وعشرون عاماً لم تر فيها سامح بل تجنبت أن تراه في زياراتها القليلة للقاهرة خلال الأعوام العشرون الماضية. مازال خياله يبعث في قلبها نبضات من النوستالجيا الممزوجة بالأمان والدفء والألم. لا تريده أن يراود خيالها وقد أصبحت نورا الدمية الغارقة وسط أكوام الماكياج، والملابس الفاخرة وتلك السهرات الممتعة مع أشخاص تستعين على جفاف حياتها بمزيد من الصخب والمجون. يمتلك زوجها عدة معارض لبيع السيارات المستعملة، بزنس يعتمد على النصب والإحتيال وتقديم صورة غير حقيقية عن منتج لا يخلو من عيوب. تماما كزوجها .. لا تماما ك “انا” .. هكذا همست لنفسها. أصبحت سيارة جميلة ولكن مستعملة، يستخدم زوجها قوامها وجمالها ولغتها الإنجليزية المتقنة لزوم الوجاهة الإجتماعية، ويغدق عليها في مقابل ذلك لتدوم نضارتها وجمالها وإنوثتها .. في خدمته.
ظهر لها سامح عبر الفيسبوك منذ عدة سنوات. عندها، بُعثت حياتها من جديد. إمتلأ وجهه وجسده قليلا، مازال شعره غير مهذب تماما كأفكاره. شيئ ما في صور الماضي تجعلنا نبدوا أجمل عندما نكبر، يبدوا سامح أكثر حيوية وهو في الأربعينات من عمره. سألته “هل تراني تغيرت”؟ نعم.. “صرتي أجمل” هكذا أجاب. تفحصت صوره على الفيسبوك وأدركت أنه يفعل نفس الشيء. أحست بالمتعة وهي تتخيله يتنقل بين صورها في مناسبات إجتماعية وحفلات موسيقية تعكس ترف و”لايف ستايل” لم تجدها في “صوره”. لم يتركها كثيراً لأحساسها بالإنتصار. قال عبر الشات
– حياتك تعكس تلك البرجوازية اللعينة.
– إتكلم بالعربي من فضلك
– أنتي تعلمين أن حياة متسلقي الثروات لا تروقني. يظل الإنسان عبداً للمال ويظل الإحساس بالفقر يطارده دون شبع
– أنت فقط تداري هزيمتك أمام إختياراتي
– ربما هزيمتي وهزيمتك؟ هكذا تساءل وهي تعلم أنه لا ينتظر رداً. فقط يعطيها مساحة لتظن أنه ربما لا يعرف الجواب. يا له من كاذب حنون.
قال
– هل يحبك
– بجنون. أنا كل عالمه. لا يتوقف عن محاولة إرضائي
– هل تحبيه
تجاهلت السؤال..
نظر وكأنه يتجول ليرى حجرتها بعينيه عبر الكاميرا. قال
– ما هذه الكتلة الزجاجية خلفك..
إنزاحت قليلا ونظرت إلى حيث يشير، ثم قالت ضاحكة
– زجاج يا جاهل؟ هذا تمثال لي نحته فنان فرنسي يدوياً من الكريستال الباكاراتي الخالص. قالت بفخر وبنبرة من التحدي لم تجد لها مبرراً “دفع فيه زوجي 10 ألاف دولار فقط من أجل أن ينهيه النحات قبل أن تنتهي أجازتنا في فرنسا قبل عامين”.
قال دون أن يعكس وجهه إنبهاراً كانت تتمناه
– حلو أوي
– لأ شكله مش عاجبك
– يمكن.. التمثال كمان مش شبهك… هل يحب زوجك تحويل الأشخاص الى تماثيل لامعة؟
– أنت سافل. إعتذر
– لا
– إعتذر
– أسف
– أسفك غير مقبول! الأسف بهذه السهولة يضايقني أكثر، يعكس عدم إكتراث بفداحة الجريمة. مجرد رغبة في التخلص من الموقف.
– مازلت أعشق إهتمامك بتفاصيل ألفاظي وسكتاتي.
حاولت ألا تفعل ولكنها إبتسمت.. فإبتسم..
كانت فترات ال “شات” دبيب جيوش فاتحة تعلن إستعادة مناطق الحياة في قلب سارة الدمية. كانت بالنسبة لها وكأنها فرصة تصحح فيها مسار حياتها، فرصة لتعيد قطار حياتها ليسير على نفس القضبان التى سارت عليها حياة “نورا” لتنتهي في نفس المحطة.. محطة انتصار سارة الإنسانة. ولكن شيئاً ما في داخلها يجعلها تشعر بأن وقت التصحيح قد فات. أليس من الجنون أن نعيد مشاهدة فيلم، ثم، وبحماسة شديدة، نترجى نهاية مختلفة؟ لقد تخلت عن سامح في الماضي من أجل تمردها، فكيف يمكن أن تسترده الأن وقد فقدت نفسها.
كيف يعيد الحب نضرة الحياة الينا بهذه السهولة. لماذا لا تشعر بالذنب تجاه زوجها؟ هل إحتلتها نشوة الحب فلم تدرك أن حبها قد يكون خطيئتها؟ أم أن الحب هو تلك المشاعر الأعلى قداسة في ذاتها؟ أليس الحب هو الصواب المطلق؟ والحق المطلق؟. والحلال الأسمي الذي يقدس ويطهر؟ اليس الحب هو الله؟ كيف يكون الله حراماً…
في هذه الفترة عندما بدأت التواصل مع سامح، لاحظ الجميع حيوتيها وإقبالها على الحياة. كانت إبنتها في ذلك الوقت في الثامنة عشر من عمرها. سألتها يوما:
– ماما لقد تغيرتي كثيراً. حب جديد؟
إبتستمت سارة وضمت شفتيها دون أن ترد. فعاودت الإبنة السؤال وهي تضحك بحذر
– ماما؟؟؟ حب جديد؟؟
– ربما؟ هكذا قالت سارة وهي تضحك أيضاً وكأنها تبوح لأبنتها بصدق إحساسها
إنتفضت الأبنة واقفة بوجه صارم
– ماما حتى لو كنتي تمزحين فهذا غير مقبول.
أستطردت:
– هل تظننيني عمياء؟ أصبحتي طوال الوقت مرتبطة بهاتفك بطريقة مريبة، كنتي ستتسببين في حادث منذ عدة أيام بسبب إنشغالك بالتراسل عبرهاتفك أثناء القيادة. لم تكوني أبداً هكذاً… أقسم بأنني سوف أخبر أبي إن شعرت بأنك ستهدمين هذا البيت.
إقتربت قليلا من أمها وأتبعت والغضب يتظاير من عينيها
– لن أسمح أن تتلوث سمعتي أو مكانة أبي في المجتمع بسبب أنانية أم على وشك العجز.
تركتها وصفعت الباب خلفها دون أن تنتظر جواباً. ولكنها كانت لحظة كافية لتملأ قلب سارة بالرعب ولتعلن مرة أخرى.. وربما أخيرة.. هزيمة الحلم في معركة الواقع… تركت سامح وإستعادت سارة الدمية.
– مدام؟….. مدام سارة؟ ….أبونا منتظر حضرتك. نبهتها السيدة مرة أخرى.
نهاية الجزء الأول
القصة من مجموعة “الحياة داخل باسبور أزرق”