قليني نجيب يكتب: سطور منسية… من تاريخ البهية

قال ابن عبد الحكم أن عمراً أبطأ في ارسال الخراج، فبعث إليه أمير المؤمنين (ض) يستبطئه؛ وجرت بينهما كتابات، وفي أحداها قال عمرو: “… أما بعد فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج؛ وذكرتَ أن النهرَ يُخرج الدُّرَ، فحلبتُها حلبا قطع ذلك دَرَّها “(فتوح مصر واخبارها، صـ 110).
وعندما كلف امير المؤمنين عثمان (ض)، أخيه في الرضاعة عبد الله بن سعد، بتولي خراج مصر، أبى عمرو ذلك، وقال: “أنا إذا كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها”. فعزله عثمان (ض) وجمع في يدي بن سعد الخراج والإمارة (فتوح مصر، صـ 120).
ولما تولى ابن سعد ارتفع مقدار الجزية التي كان يرسلها، فبلغ اربعة عشر مليون دينار؛ كما يروي ابن عبد الحكم عن الليث: ” جباها عبد الله بن سعد حين استعمله عليها عثمان أربعة عشر ألف ألف؛ فقال عثمان لعمرو بعدما عزله عن مصر: يا أبا عبد الله، درت اللقحة بأكثر من درها الأول؛ قال عمرو: أضررتم بولدها “.
وأضاف ابن اياس: “إن هذه الزيادة التي أخذها عبد الله بن ابي السرح إنما هي على الجماجم فإنه أخذ على كل رأس دينارا خارجا عن الخراج فحصل لأهل مصر بسبب ذلك الضرر الشامل وكانت هذه أول شدة لأهل مصر في مبتدأ الإسلام “(بدائع الزهور جـ1، صـ 113). – في الحقيقة لم تكن هذه أول شدة، بل سبقتها شدائد كثيرة، منها تكليف المصريين بحفر قناة وصلت النيل بالقلزم، لنقل خيرات مصر إلى حاضرة الخلافة؛ وقد تكبدوا في حفرها خسائر فادحة.
وكانت تُصرف من در اللقحة مرتبات للعرب، من خلال ديوان الاعطيات. كما كان يعد لهم الطعام كل يوم بيومه، فكان للأمير عبد العزيز بن مروان “في كل ليلة مائة حَلَّة كبيرة تُحمَل على عَجَل، وفيها الطعام، تُفَرَّق على قبائل العرب التي حوله “(بدائع الزهور).
وأشار ابن اياس كذلك إلى ما كانت تدره من ثروات على الولاة وغيرهم، قال: “مرض الأمير عمرو بن العاص وسلسل في المرض؛ فلما أشرف على الموت، احضر ما كان جمعه من أموال القبط لما فتح مصر، وقال لولده عبد الله: “إذا انا مُت فأردد هذه الأموال التي جمعتها إلى أصحابها”. فلما مات الأمير عمرو سمع بها معاوية فأرسل أخذها وقال: “نحن أحق بهذه الأموال لدفع العدو” فأخذها وادخلها في بيت المال. قيل لعبد الله بن عمرو: “ما كان قدر ذلك المال”؟ قال: “كان سبعين جرابا من جلد ثور كاملة “(بدائع الزهور).
وذات مرة بعث الليث بن سعد ألف دينار إلى الإمام مالك، فغضب الرشيد، وأرسل يقول له: “بعثت انا إلى الإمام مالك خمسمائة دينار، فتبعث أنت ألف دينار، وأنت واحد من رعيتي! فأرسل الليث يقول: يا أمير المؤمنين إن لي في كل يوم مُتَحَصَّل غلالي ومتجري ألف دينار فاستحيت أن اقابل مثل هذا الرجل بأقل من متحصل يوم واحد”.
وذات يوم بلغ الرشيد أن والى مصر قال: “انا أحسن من هارون الرشيد”، فقال الرشيد: “والله لأولين على مصر اوحش الناس شكلاً”، فاستدعى عمر بن مهران وولاه على مصر نيابة عن جعفر”. وقيل عن ابن مهران هذا أنه “كان شنيع الخلقة زري الشكل أحول العينين”.
ولم يقتصر تولى أمرها على “شنيع الخلقة”، فقد ولاها الوليد بن عبد الملك لـ قرة ابن شريك الذي قال عنه ابن اياس: “كان قرة ظالما غشوما جهولاً؛ قيل كان يصعد بالخمر والملاهي على سطح جامع عمرو بن العاص”. وقال عنه ابن تغري بردي: “كان سيئ التدبير خبيثًا ظالمًا غشومًا فاسقًا منهمكًا … وكان أشر خلق الله … وكان عمر بن عبد العزيز يعتب على الوليد لتوليته مصر “(النجوم الزاهرة، جـ1، صـ 217)... ولهذا يعتبر قرة من بواعث فخرنا، ومن العلامات المضيئة في تاريخنا، حتى أن أولي الأمر اطلقوا اسمه على أحد شوارع الجيزة، مكافأة له على ما فعله بأجدادهم المصريين!
وفي ولاية عبد الملك بن رفاعة، كتب سليمان بن عبد الملك إلى عامل الخراج أسامة بن زيد التنوخي يطالبه بالتشدد في حلب البقرة، وإن أدى الأمر إلى هلاكها، قال: “احلب الدر حتى ينقطع وأحلب الدم حتى ينصرم”.
وكان سليمان معجباً به راضيا عنه كل الرضى حتى إنه كان يمتدحه في غيبته كما في حضرته؛ وذات يوم قال لابن عمه عمر بن عبد العزيز: “هذا أسامة لا يرتشي دينارًا ولا درهمًا”، فقال له عمر: “أنا أدلك على من هو أشر من أسامة، ولا يرتشي دينارًا ولا درهماً” ، قال سليمان: “ومن هو؟”، قال عمر: “عدو الله إبليس” (النجوم الزاهرة، جـ1، صـ231). فغضب سليمان لان عمر بن عبد العزيز، وكان معروفا بورعه وعدله، كان يعلم بحقيقة اسامة التنوخي، ولم يستحي من قول الحق.
وفي ولاية عيسى بن منصور؛ ثار أولاد البقرة من جراء انقطاع الدر وانصرام الدم؛ وعجز الوالي عن اخماد ثورة المظلومين؛ فجاء المأمون بنفسه على رأس جيش كبير فوبخ الوالي، وقال له “هذا كله بسوء تدبيرك وجورك على أهل القرى؛ وقد حملت الناس ما لا يطيقون”.
وبدلا من أن يرفع المأمون الظلم عن الناس، إلا أنه كلف الافشين بإسكات صوت المقهورين بالسيف فقتل الثائرين وسبى نساءهم وزراريهم كما يقول ابو المحاسن عن الافشين انه “حارب أهلها وقتل منهم جماعة كثيرة؛ وأسر النساء والصبيان واحضرهم بين يدي المأمون فأمر بقتل الرجال وبيع النساء والصبيان وكان أكثرهم من القبط والحوف”. ولم يستنكف المؤرخ الكبير أن يصف الأفشين الذي نكل بالمصريين، بأنه “كان شجاعا بطلا”.
ورجع المأمون إلى مقره (وجيبه مليان) من المصادرات، ومن ثمن النساء والصبيان، وقد بلغت قيمتها أربعة ملايين دينار حسبما روى التاريخ “دخل عليه في هذه السرحة نحو أربعة آلاف ألف دينار غير الهدايا والتحف”.
وقال ابن اياس عن عامل الخراج ابن المدبر أنه: “كان من شياطين العمال، أحدث في أيامه أنواعا من وجوه الظلم لم تكن بمصر منها: أنه حجر على الاطرون والملح، وكانا مباحين للناس؛ ومنها أنه قرر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالاً، وسماه المراعي؛ وقرر على مصايد الأسماك مالاً، وسماه المصايد. وأحدث من هذه المظالم أشياء كثيرة … فلما جرى ذلك رحل غالب أهلها من الظلم وانحط خراجها إلى الغاية … “(بدائع الزهور، جـ1، صـ 159).
هذه أم الدنيا، مهد العلوم والحضارات، ومصدر الخيرات، كانت عند الحكام بمثابة بقرة، إذا ما انقطع درها، استحل ذبحها وأكلها، هي وأولادها.