د. عبدالله شلبي يكتب: البنية الذهنية للإرهاب الأصولي الإسلامي

- – كيف يفكر الارهابيون المسلمون في أنفسهم وفى العالم من حولهم؟
- – وكيف تفضي هذه الرؤية إلى العنف والإرهاب؟
يتأسس الارهاب الأصولي الاسلامي في المحل الأول على أيديولوجية متكاملة، وموقف محدد من العالم قبل أن يكون مجموعة من الرؤى والتصورات والشعارات والممارسات الدينية والسياسية. فهذا النمط من التدين يؤكد بداية، على مبدأ شمولية الإسلام وكليته. فالإسلام دين ودولة، عبادة وقيادة، مصحف وسيف. والادعاء بأن الدين شيء والسياسة غيره هو قول باطل لأن الاسلام دين شامل لا يعرف التجزئة بحال، وهو يمتد ليشمل حياة البشر بكل تنوعاتها وبكل مستويات وجودهم الفردية والاجتماعية. وهو لا يقتصر على العقائد والشعائر التعبدية، وإنما تنطوي نصوصه ووفق القراءة الحرفية النصية لها على أوامر تفصيلية تتدخل لتنظيم وإدارة شؤون الحياة الإنسانية بكاملها في التشريع، والاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والثقافة ……، ذلك أن رَبَّ الناس قد شرع لهم في محكم كتابه وعبر سنة نبيه كل ما يُصلح شأنهم.
وينطوي تدين جماعات وتنظيمات الإرهاب الأصولي الاسلامي على رؤية محددة للإسلام تعتمد على إبطال إعمال العقل في فهم النصوص المقدسة لأن معناها ظاهر وواضح وهي تعطي الأولوية للقراءة الحرفية النصية الصارمة للقرآن وللسنة النبوية. وتسعى هذه الرؤية إلى فرض نواتج هذا النوع من القراءة على كل شئون الحياة والمجتمع الإنساني. وبحيث يتم تفسير كل شيء، والحكم على كل ظاهرة بمقتضى هذه النصوص لتصبح المصدر الأول للمعرفة، والمعيار الأساسي والوحيد للسلوك والحكم والتقييم دون مراعاة لما يستجد من أوضاع وتبدل للأحوال. وبالتالي يكون الماضي والعصر الأول لزمن تأسيس الدعوة الإسلامية أفضل من الحاضر القائم الذي يعتبر انحرافاً وتدهوراً عن الأصل القديم والنموذج المجتمعي الأول الذي أسسه نبي الإسلام والخلفاء الأوائل ممن جاءوا من بعده، وهو يمثل عصراً ذهبياً ولى وانقضى ويتعين بذل كل الجهد لأجل استعادته نقيا خالصاً من كل شائبة. ذلك أن حال أمة الإسلام اليوم لا يصلح إلا بما صلح به أولها. وعليه توصف رؤية جماعات وتنظيمات الإرهاب الأصولي الاسلامي للعالم بكونها رؤية تمامية لا شيء خارجها وهي ترفض، وبشكل قطعي، كل ما يخرج عن هذه الرؤية إلى حد الإقصاء والتكفير والدعوة للإبادة.
ويتعين الإسلام لدى الإرهابيين المسلمين بكونه عقيدة تتأسس على التوحيد الكامل والخضوع الشامل والمطلق لله. فمهمة الوجود الإنساني بكامله، ومن وجهة نظرهم، هي إخلاص وإقرار العبودية لله الواحد. وهذا الطابع التعبدي يمتد ليشمل كل أنشطة الإنسان على مختلف مستويات وجوده الفردي والاجتماعي. وبما أن الله وحده هو خالق هذا العالم بما فيه ومن فيه، فيكون وحده المتفرد بالحاكمية والتشريع لخلقه أجمعين. وليس من حق أحد من البشر ادعاء هذا الحق واغتصابه لنفسه لأن الحاكمية يتفرد بها الله وحده، وواجبنا الالتزام والتنفيذ الحرفي بكل ما أمرنا الله به في القرآن أو عبر سنة النبي كأساس للحكم وللحياة الإنسانية بكاملها. والمسلم صحيح الأيمان هو من يُقر بالتوحيد الكامل والخالص لله وحده، وهو من يجعل غاية وجوده إخلاص العبادة لله وسبيله إلى ذلك هو ردّ الحاكمية لله وحده بتطبيق أوامره كاملة.
ووفق هذه الرؤية لا يعتبر الاعتقاد بوجود الله وتقديم الشعائر التعبدية له أمراً كافياً لكي يصبح المجتمع مسلماً، وإنما يتعين على المجتمع بكامله أن ينكر حاكمية غير الله من البشر والنظم والشرائع والقيم والعادات والتقاليد والتصورات والرؤى، وإلا اعتبر هذا المجتمع مجتمعاً جاهلياً ومرتداً عن الإسلام. ذلك أن الجاهلية وفق تصور الإرهابيين المسلمين ليست اسماً لمرحلة تاريخية سابقة على الإسلام انقضت ومضت؛ بل هي صفة تنسحب وتنطبق انطباقاً حرفياً على كل وضع، بصرف النظر عن اعتبارات الزمان والمكان، إذا كان هذا الوضع مشابهاً لتلك المرحلة التاريخية السابقة على الإسلام.. إنها وضع مجتمعي يتصف بغيبة حاكمة الله وسيادة حاكمية البشر. وكل مجتمع محكوم بقوانين من صنع البشر أنفسهم هو مجتمع جاهلي محكوم بمنهج وتشريع لم يقرره الله، ومن ثم فهو مجتمع كافر بالضرورة. وبهذا تؤسس جماعات وتنظيمات الإرهاب الاصولي الإسلامي التكفير على غياب الحاكمية الإلهية وسيادة حكم البشر، وعبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله، والاعتراف بألوهية بعض البشر وعبادتهم من دون الله، وهذا هو صميم الجاهلية، رجوع بالحكم والتشريع إلى أهواء البشر ومقاصدهم.
وبمقتضى هذا التصور تقرر هذه الجماعات والتنظيمات بأن العالم يعيش اليوم جاهليةً جديدةً كالجاهلية التي عرفها التاريخ قبل مجيء البعثة المحمدية. بل أنها أظلم في رأيهم من الجاهلية الأولى. فالعالم يحكم بغير ما أنزل الله ويشرع للبشر بإرادة البشر أنفسهم دون الشرع الإلهي. ومن ثم فهو يتنكر لمبدأين مهمين جاء الإسلام لإقامتهما وهما تأكيد ألوهية الله في مواجهة ألوهية البشر، والمبدأ الثاني هو تأكيد حاكمية الله ضد حاكمية البشر الذين ارتضوا أن يتولى بعضهم التشريع لأمور حياتهم من دون الله.
ولقد كان محصلة التنكر لهذين المبدأين أن صار كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس وعقائدهم، وعاداتهم، وتقاليدهم وموارد ثقافتهم، فنونهم، وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم ونظمهم ومؤسساتهم. وعليه يكون كل مجتمع محكوم بقوانين من صنع البشر هو مجتمع جاهلي وكافر حتى ولو ادعى أهله بأنهم مسلمون وملتزمون بقواعد الإسلام، وكانت شهادات ميلادهم تشهد بكونهم مسلمين. لأنهم في حقيقتهم أقوام هجروا الإسلام حقيقة ومضموناً وأعلنوه اسماً فحسب، تنكروا لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً، وظنوا أنهم يدينون بالإسلام اعتقاداً بذلك، في حين أن الإسلام الحق هو إقرار عقيدة لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي وهي رد الحاكمية لله في كل أمور الحياة بشموليتها وكليتها، وطرد من يعتدى على سلطان الله ويغتصب حق الألوهية بدعوى الحاكمية لنفسه من دون الله.
وتأسيسا على هذه التصورات كان من الطبيعي ألا ترد أية إشارة إلى التعددية الحزبية والسياسية والفكرية. في تصور جماعات وتنظيمات الإرهاب الاسلامي لدولتهم المقبلة. فلا أحزاب ولا مجلس النواب ولا حتى أفكار خارج الشريعة الإسلامية وما قرره الله في كتابه المقدس. ففي المجتمع المسلم لا وجود إلا لحزب الله المأمور بقيامه شرعاً، أما حزب الشيطان فقيامه ممنوع. وعليه فالديمقراطية ليست من الإسلام، ولا علاقة مطلقا بين الديمقراطية والإسلام. لأن الديمقراطية تُعطى البشر الحق في التشريع ابتداء، ومجرد وجود سلطة تشريعية بشرية تشرع بما لم يأذن الله به، ووفق هواها عن طريق مجلس النواب يعتبر جاهلية، إذ أن حق التشريع غير مكفول وغير ممنوح لأحد من الخلق، لأنه حق خاص بالله وحده. ولا حاجة إذن للمسلمين لاستيراد الديمقراطية الغربية لأن في شريعتنا ما يغني عنها وما يعفينا من مساوئها الناشئة عن الروح المادية والنفعية التي هي إفراز للعقلية الغربية وما قدمته في مسارها من علمانية وعقد اجتماعي وتنوير وليبرالية، ومن ثم فالديمقراطية مرفوضة رفضاً تاماً لأنها مناقضة للتوحيد، فهي تعنى حاكمية الجماهير وتأليه الإنسان، وهي شركٌ بالله. والفاصل بين الديمقراطية والتوحيد هو أن التوحيد يجعل التشريع خالصاً لله، أما الديمقراطية فهي حكم الشعب بالشعب ولصالح الشعب، والمشرع في الديمقراطية هو الشعب والإرادة الشعبية الحرة العاقلة، إما المشرع في التوحيد فهو الله. وعليه فالديمقراطية شرك بالله لأنها نزعت حق التشريع من الله وأعطته للشعب وللإرادة الشعبية الحرة العاقلة. وهذه الديمقراطية ليست ضلالاً عل المستوى النظري الشرعي فحسب وإنما هي ضلال على المستوى العملي أيضا، فالانتخابات التي تتم باسم الديمقراطية طريق مسدود وهي تكشف عن تحكم أصحاب المال والمتحكمين في الإعلام وفي اتجاهات الناخبين لتحقيق مصالح الرأسماليين. وهؤلاء الناخبين ينتخبون من يمثلهم في مجلس النواب ويسحقهم في الوقت ذاته.
والديمقراطية وتكوين الأحزاب، في رأى جماعات وتنظيمات الإرهاب الأصولي الإسلامي مناقض للشريعة لعدة اعتبارات أولها، أن التزام هذه الطريقة في الحياة السياسية يقتضي السماح بل والرضا لغير المسلمين وأصحاب العقائد الباطلة من النصارى والليبراليين والشيوعيين والقوميين وغيرهم، أن يؤسسوا أحزابا أسوة بحزب المسلمين. والاعتبار الثاني، أن الالتزام بالعقد الديمقراطي يتضمن التسليم وعدم التصدي أو حتى الاعتراض لو تمكنت أي من هذه الفرق الضالة من الوصول إلى السلطة والحكم. والاعتبار الثالث، يتمثل في أن الالتزام بالعقد الديمقراطي وقانون الأحزاب يتضمن إيقاف الوسائل الشرعية الأخرى عن الاستعمال في التصدي للحاكم المستبدل لشرائع الله، أو في التصدي للمنكرات التي يأتيها الناس عن جهل بأمور دينهم.
ويتضح لنا من الطرح المتقدم أن جماعات وتنظيمات الإرهاب الأصولي الإسلامي تقيم تعارضاً تاماً بين فكرتين، وتصورين، ومجتمعين، وحقيقتين: الإسلام والجاهلية، الإيمان والكفر، دار الإسلام ودار الحرب، حاكمية الله وحاكمية البشر، الله والطاغوت وهو كل من أدعى لنفسه حق التشريع من دون الله. وفى عُرف هذه الجماعات والتنظيمات أنه لا سبيل إلى المصالحة أو الوساطة أو التهادن بين هذين الطرفين، ولا بقاء لأحدهما إلا بالقضاء على الآخر. وبالتالي يكون المحور الأساسي المحرك للوجود الإنساني بكامله هو الصراع العقيدي بين حكم الإسلام وحكم الجاهلية، وتكون القضية في جوهرها قضية إيمان وكفر، شرك وتوحيد، جاهلية وإسلام. ولكل ذلك كان من الطبيعي أن يتضمن نمط التدين الإسلامي الذي يتبناه الإرهابيون المسلمون في صميم بنيته الذهنية مشروعاً انقلابياً لتغيير أوضاع الجاهلية المعاصرة، وهو يتوسل الجهاد أو العُنف المقدس بحسبانه الوسيلة الأساسية لقلب العالم وتغييره جذرياً.
والعُنف المقدس أو الجهاد من وجهة نظر أعضاء جماعات وتنظيمات الإرهاب الأصولي الإسلامي هو الركن السادس من أركان الإسلام دون إعلان عنه. وهو الفريضة الغائبة، إلا أنها فريضة واجبة لحماية الإسلام. وهم يرونه بحسبانه الجذوة المحركة للإسلام عبر تاريخه الطويل. فالإسلام ليس بالدين المستأنس أو المستسلم، وإنما هو إسلام البطولة والفداء والجهاد والتضحية والشهادة. إن الإسلام في جوهره فكرة انقلابية تقرر أن لا مساواة بحال مع المجتمع الجاهلي الكافر بكل حكامه الطواغيت وبكل من يحكمونهم لأنهم ارتضوا حكم الطواغيت من البشر أيضاً. وهو يهدف إلى هدم نظام العالم الاجتماعي برمته وتدميره كاملاً، لأن حكم الجاهلية وبنائها لابد وأن يتهدم من القواعد والجذور لتأسيس وبناء حكم جديد تماماً حسب فكرة الإسلام ومنهجه الصحيح. ويكتسب هذا العنف المقدس طابعاً تأسيساً ووجودياً في صميم البنية الذهنية لأعضاء جماعات وتنظيمات الإرهاب الأصولي الإسلامي، لأنه وحده الوسيلة والنهج الذي يمكن قبوله وتفعيله في مواجهة دول الطواغيت وأدواتها ومؤسساتها. وهو عنف يتجاوز قتل الطواغيت من الحكام ومعاونيهم ورموز نظم حكمهم، إلى تدمير يصيب المجتمع الجاهلي الكافر بكامله. وليس ثمة تصالح على الإطلاق بين الجاهلية والكفر، ولأن جهاد الطواغيت فريضة واجبة لإخراج الناس من عبادة الطاغوت إلى نور الإسلام الحق وعبادة الله الواحد.
وأتصور أن ثمة عاملين أساسين يجعلان من تدين أعضاء جماعات وتنظيمات الإرهاب الأصولي الإسلامي نمطاً شديد الخصوصية بالقياس لأنماط التدين الإسلامي الأخرى. ويأتي في المقدمة هنا الدور الأساسي والمهم الذي ينهض به العنصر البشرى الذاتي في تأسيس هذا النمط من التدين وفى صياغة منطلقاته ورؤاه وتصوراته الفكرية وتفسيراته وتخريجاته لنصوص القرآن والسنة، وأعنى هنا المنظرين المعتمدين والأيديولوجيين الذين يمكن النظر إليهم بحسبانهم الآباء المؤسسين لهذا النمط من التدين، والذين أحاطت بهم شروط اجتماعية / اقتصادية وسياسية وثقافية ونفسية بعينها ودفعت بهم في النهاية إلى تقديم هذه الصيغ الفكرية والأيديولوجية بشأن الحاكمية والجاهلية والتفكير.
ويتمثل العامل الثاني، في تصوري، فيما يتطلبه هذا التدين الجهادي الانقلابي ويقتضيه من ضرورة انفصال أعضاء جماعات وتنظيمات الإرهاب الأصولي الإسلامي عن الواقع الجاهلي الكافر المحيط بهم. فبما أننا نعيش في مجتمع جاهلي وكافر، فإنه يتعين علينا هجرانه بتشغيل إرادة العزلة المفاصلة بكل مستوياتها وحسب مقتضيات الحال. وتقدم جماعات وتنظيمات الإرهاب الأصولي الإسلامي في هذا السياق، نوعاً من النفي المتدرج لكل الواقع الراهن. يبدأ بنفي الإسلام عن المجتمع القائم بحكم جاهليته وكفره، وفي مرحلة تالية ينفي الإسلام عن السلطة القائمة والنظام الحاكم لأنه طاغوت مغتصب لحق من أخص حقوق الربوبية وهو التشريع لخلق الله من البشر. وفى المرحلة الثالثة ينفى أعضاء جماعات وتنظيمات الإرهاب الأصولي الإسلامي إمكانية تعاملهم وتصالحهم مع عالم الجاهلية والكفر ونظامها الحاكم فيؤسسون للعزلة والمفاصلة الشعورية الجزئية، ثم العزلة والمفاصلة الوجودية والكاملة بكل ما تحمله من دعوة للانفصال الاجتماعي عن الواقع المحيط. ومن الانفصال الاجتماعي ينتهي التدين الجهادي الانقلابي بدعوة إتباعه للانفصال عن الجسد ذاته من خلال مطالبتهم بالدخول في مواجهات ومعارك مع الطاغوت ونظم الحكم الكافرة بغية تدميرها. وهي بالقطع تكون معارك غير متكافئة فهي تدفعهم إلى التهلكة والموت والتضحية بالذات. فتتحقق غاية الإيمان الكامل بالاستشهاد وهو أقصى تجليات التدين الجهادي الانقلابي ومنتهاه. وإن شئنا التوصيف الدقيق، بالعمليات الانتحارية للحصول على الشهادة وجواز المرور إلى جنة الخلد والنعيم المقيم.