يحيي عواره يكتب: معجزة القس الذي طار
أتذكر حكاية حكاها لي أبي ذات مساء صيفي في مرحلة صباي المبكر.. أتذكرها من آن لآخر، وأتأملها فأخرج منها – كل مرة – بمغزى جديد.. ورغم انني لم أدرِ ما الذي كان يقصده أبي من روايتها لي، فأنا أرجح أن هذا لم يكن لمجرد التسلية. والحقيقة انني لم أعد أتذكر ماذا كان المصدر الذي نقلها عنه أبي.. هل كان فيلمًا شاهده أو روايةً قرأها، أو قصةً رواها له صديق !!
كان من عادة أبي أثناء عطلاتي الصيفية – في هذه السن – أن يصطحبني معه إلى المسجد لصلاة المغرب والعشاء ولحضور الدروس بين الصلاتين، ثم نتمشى بعدها في معظم هذه الأمسيات إلى مقهى تعود أن يلتقي فيه ببعض أصدقائه للمسامرة والحديث في الشؤون العامة ومجريات الأحداث.
كانت هذه الصحبة بالنسبة لى مبعثَ شعورٍ طيب.. شعور بالثقة بالنفس والزهو، كما كانت تتيح لي الفرصة للحصول على شيء من “المشبك” إذا صادفنا في طريق عودتنا من المسجد عربة بائع الحلوى الشرقية.. كان أبي حينها يشتري لي قطعة ألتهمها بتلذذ قبل أن يأمر لي بكوبٍ من السحلب أو الكاكاو باللبن حين نصل إلى المقهى، ولكنني كنت – في بعض هذه الأمسيات – أحس بالملل أيضًا إذا كان درس المسجد لا يحتوي على قصص مسلية، أو حين يتطرق حديث أبي وأصدقائه خلال جلستهم التي تستغرق حوالي الساعة لموضوعات تستعصي على فهمي.
وأتذكر أن أبي قص علي حكاية هذا القس “الطائر” ذات أمسية صيفية من هذه الأمسيات ونحن في طريقنا من المسجد إلى المقهى، أو ربما ونحن في طريقنا إلى المنزل بعد جلسة المقهى.
القصة على ما أتذكرها تحكي:
“أن قِسًا مسِنًّا ضعيفَ البنية كان يرعى كنيسةَ بلدة قروية صغيرة في بلد أوروبي ما، وقد كان من واجبات هذا القس أن يقوم بزيارة شهرية لكنيسة أكبر في المدينة القريبة لينقل بنفسه جزءًا متفقًا عليه من تبرعات وعطايا ونذور أهل قريته، وربما لأغراض أخرى مثل مقابلة ومشاورة أصدقاء وزملاء له بالمدينة. وقد كان من عادة هذا القس الطيب أن يقوم برحلته الشهرية هذه منفردًا وسيرًا على الأقدام أثناء الليل.. كان مطمئنًا إلى الحصانة التي تمنحها له مكانته الروحية، وكان يعتبر أن المشقة التي يتكبدها في رحلته هذه نوعًا من الصلاة أو الحج يقربه إلى الله. كان يصل إلى مقصده في أخر الليل، فينام هناك إلى الصباح، ويستيقظ ليؤدي مهام رحلته ويسلم أمانته ثم يعود إلى قريته قبل أن ينصرم النهار.
وفي ذات رحلة من هذه الرحلات في مقتبل شتاء، كان القمر غائبًا فكانت الظلمة حالكة وكان الجو يميل إلى البرودة.. كان القس يسير بين الحقول، والهدوء مخيم على كل شيء حوله.. وبعد أن قطع شوطًا طيبًا من رحلته التي تستغرق عدة ساعات، مر خلالها بمناطق مهجورة وعبر قنوات صغيرة على كباري قديمة.. بدأ القس العجوز يشعر ببوادر إجهاد، ولكن هوَّن عليه أنه كان يعرف أن ما بقى من الطريق أقصر مما قُطِع. وبينما هو منغمس في تلاوة خافتة وسارح في أفكاره، فوجئ بأطياف لثلاثة رجال ضخام، بدوا له ملثمين، واستطاع أن يميز أن أحدهم يحمل بلطة وآخر يحمل هراوة غليظة، كانوا يتجهون اليه مسرعين، فقدر من مظهرهم أنهم قطاع طريق، وأنه لن يكون له قِبَلٌ بحماية نفسه وما يحمل من نقود منهم، لم يكن يحتمل فكرة أن يدعهم يتمكنون من الاستيلاء على الأمانة التي يحملها ويشعر أن الحفاظ عليها أهم من الحفاظ على حياته نفسها، وخطر بباله في مثل لمح البصر أنه لا خيار أمامه إلا الهرب، فضم حقيبته التي تحتوي على كنزه إلى صدره، وأنطلق يجرى كالسهم بأقصى ما يستطيع من قوة في عكس اتجاه اقتراب الملثمين الثلاثة، ولكنه اكتشف بعد عدة أمتار أنه متجه صوب قناة كان يجتازها عادةً عبر كوبري قريب، فزاد من سرعته واندفع بلا تردد نحو حافتها وقفز عبرها بكل ما استطاع من قوة، ولم يشعر حين سقط على الناحية الأخرى منها إلا ببعض الألم الخفيف نتيجة الاصطدام بالأرض، فوقف على عجل واستأنف العدو خشية أن يكونوا قد قفزوا خلفه.. استغرب أنه لا يسمع وقع أقدام تطارده، فأسترق نظرة إلى الخلف ليلمح أشباح الرجال الثلاثة واقفين على الضفة التي قفز منها بغير حركة، شعر بشيء من الأمان، فخفف من سرعته حتى اطمأن أنهم لن يتبعوه، فاستأنف مشيه حتى وصل إلى مقصده.
قضى القس الليلة وصباح اليوم التالي كما اعتاد في كل زيارة.
في طريق عودته، قرر القس أن يجرب اختصار الطريق بأن يعبر القناة قفزًا كما فعل في الليلة الماضية، بدلًا من السير إلى الكوبري الذي تعود أن يعبر عليه. وعندما وصل إلى المكان فوجئ بأن عرض القناة عند هذا الموضع لا يقل عن سبعة أمتار أو يزيد قليلًا، وانه من المستحيل عليه أن يقفز عبره سالمًا.. لا هو ولا حتى شاب تام الفتوة كامل اللياقة.
أكمل القس الطيب باقي رحلته عابرًا للكوبري، وتأكد لديه أن قفزته المسائية الغريبة كانت معجزة ساقها الرب إليه جزاءً وفاقًا لحرصه على أمواله، وعندما عاد إلى قرية كنيسته الصغيرة، وفي أول عظة عامة لأهل القرية، قص قصته عليهم، فأجمع أغلبهم على اعتبار ما حدث معجزةً تستحق التسجيل والحفظ للأجيال القادمة.
تساءلت فتاة شابة كانت حاضرةً لعظة القس، بينها وبين نفسها: أليس من المحتمل أن بداخل كل منا – كما بداخل القس – طاقة لا نعرف مداها إلا إذا واجهنا تحديًا، فقررنا – بغير أي تردد أو شك – أن نجتازه !؟.. وفي غمرة حماس الحضور لفكرة المعجزة الإلهية، قررت الفتاة ألا تبوح بالخاطر الذي عَنَّ لها لأحدٍ خشية أن تتعرض للسخرية أو أن تتهم بضعف الإيمان !!”