يحيي عواره يكتب: كُن حكيمًا.. وتلَذَذ !

“اللذة” كلمةٌ سيئةُ الحظ.. فهي ذاتُ وقعٍ سيئٍ على آذان الكثيرين، لأنها تقترن ببعض سوء الفهم في أذهانهم، وهذا لأسباب قد تكون متصلةً بموروثنا الثقافي وواقعنا الزاخر بالعقد والتعقيدات، ولهذا رأيتُ أن نظرةً على الكلمة من زاوية تاريخها ودلالتها الفلسفية، قد تساعد على إنصافها، وتصحيح بعض ما عَلَقَ بها من غموضٍ والتباس.
وكثيرًا ما يسببُ الاعترافُ بالتوقِ إلى التلذذ خجلًا أو شعورًا بالذنب أو ما شابهَ من مشاعر سلبية، الأمر الذي يدفعنا، أحيانًا، إلى تجنِّبِ مثل هذا الاعتراف، وربما إلى استنكارِه عندما يصدرُ من غيرنا.
ولعل مذهبًا فلسفيًا لم يُظلمْ كما ظُلِمَ مذهبُ “اللذة” وكما ظُلِمَ أشهرُ وأقدم فلاسفتِه الكبار (إبيقور)، لا لسببٍ، سوى سطحية الفهم والتسرع في إصدار الأحكام، فعلى الرغم من أن كثيرًا من الباحثين ذهبَ إلى أن هذا الفيلسوف الكبيرَ كان يعيشُ حياةً متواضعة، أقربَ إلى التقشف، شاعَ الانطباع الخاطئ عن مذهبه باعتبارِه دعوة إلى الإباحية والإفراط في التمتعِ بالملذاتِ الحسية دونَ ضابطٍ أو رقيب.
تأسس مذهبُ اللذة الفلسفي في اليونان القديمة وارتبط، إلى حدٍ كبير، باسم الفيلسوفِ الإغريقي إبيقور (Epicurus) (343 – 270 B.C)، وامتد في الفلسفة الحديثة في صورة مذاهب اللذة والمنفعة التي وضعها بعضُ الفلاسفة الأوروبيين البارزين من أمثال چيرمي بنتام (Jeremy Bentham) و چون ستيوارت مل (John Stuart Mill) وچون لوك (John Locke) الذي عاش في الفترة (1632 – 1704) وقال بأن “فكرة الخير يجبُ أن تُعرَّف بأنها هي نفسها كلمة اللذة، أو على الأقل تعرف تعريفاً يردها إلى اللذة، وعارض نظرية الحق الإلهي، وقال بأن الاختيار هو أساس المعرفة.”
ويمكن إجمال الأفكار الأساسية لمذهب إبيقور في أن اللذة هي وحدها الخير الذي لا يحتاج إلى سند إثبات من خارجه، وأن الألمَ هو أيضًا شرٌ في حدِ ذاته، لأنهما ببساطة يُدرَكان بالإحساس البسيطِ المباشر، وما السعادةُ إلا الحالة التي ترجح فيها كفة اللذة على كفة الألم من حيث الدوام والكثافة.
ويرى إبيقور أن آلامَ العقل أقسى من آلام البدن، وأن خيرَ اللذاتِ تكمن في هدوء البال وطمأنينة النفس، وأن هذا لا يتحقق إلا بالحَدِ من الرغبات والحاجات غير الضرورية، وتجنب مسببات الألم التي تنشأ من الاضطراب المصاحب للحرمان مما تعَوَّد عليه الإنسانُ من ترف، وكذلك من الفشل في تحقيق الوئام بين الجسد والعقل.
وقد اعتقد إبيقور بأن الألم الجسدي يمكن تحمله باستخدام العقل، فتركيز الذهن على المتع التي اختُبِرت في الماضي وتلك المتوقعة في المستقبل، يمكنُ أن تساعدنا على تسكينِ المعاناة الجسديةِ الراهنة.
ويذهب إبيقور إلى أن اللذةَ هي أساسُ الأخلاق، وأنها هدفُ الإنسان في حياته، وأن على من يسعى إلى السعادة أن يحرص على السلوك الفاضل وعلى المعرفة التي تبصر بكيفية إقصاء الألم، وتجنب كل ما يعكر صفو الذهن. ويرى إبيقور أيضًا أن دراسة الفلسفة أمرٌ مركزي لمن يتطلعُ لحياةٍ سعيدة، فهي أفضل وسيلة للتعامل مع أهم المخاوف الإنسانية الشائعة.. الرهبة من الموت، والقلق من القدر.
ووفقًا لمذهب إبيقور، فأن التجاوزَ في تحصيلِ اللذة للحد الذي يتسببُ في العدوان على حقوق الآخرين، سوف يستدعي ردًا منهم قد يسبب الألم، ولهذا فإن الحكمةَ تقتضي أن نقفَ عند حدود حرياتِنا، وقد تجاوز إبيقور في هذا إلى حد قد أراه مبالغًا فيه، حين حبَّذَ البعدَ عن الانخراط في الأنشطة والعلاقات العامة، وفضَّل تجنُبَ الزواج وممارسة الجنس كلما كان هذا ممكنًا، ولكنه دعا لإقامة علاقاتِ الصداقة التي رأى أنها تعود بالفائدة على أطرافها.
وكما نتبادل عبارات مثل “استمتع بوقتك !” و “كن سعيدًا !”.. دعني – قارئي العزيز – أدعوك بدعوة الفيلسوف إبيقور التي تعبر إلينا من حوالي ثلاثة وعشرين قرنًا من الزمان: “كُن حكيمًا.. وتلذَذْ !”