جود نيوز الكندية

خواطر مسافر إلى النور (٢٣١):

نشأة الثقة بالنفس “ Basic Trust ” بين علم النفس... وبين الرجاء المسيحي ” لأننا سنراه كما هو“ (١يوحنا ٢:٣)

-

"الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهَر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أُظهِر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو“ (١يوحنا ٢:٣). ” فعلي كلمتك أُلقي الشبكة “ (لوقا ٥:٥)

بحسب الطب النفسي، فإن الخوف والقلق والاكتئاب كمظاهر لمتاعب الإنسان النفسية تزداد في بداية اليوم وخاصة بعد الاستيقاظ من النوم Diurnal variation مقارنةً بنهاية اليوم.

وبالإضافة إلى التفسير البيولوجي لتغير إفرازات المخ خلال ساعات اليوم الــــ ٢٤فإن هناك عامل نفسي غير بيولوجي وهو ارتباط القلق بالخوف من المجهول unknown في كل يوم جديد. لذلك فإن الرجاء تظهر قيمته في حياة الإنسان عند مواجهة المجهول.

ولا يمكن أن تزول رهبة الإنسان من المجهول مهما كانت ثقته فيما لديه من إمكانيات وقدرات خارجه يمكنه الاعتماد عليها. لأن الخوف يأتيه من داخله بينما خارجه لم تبدو فيه تهديدات بَعد. لذلك فإن احتياج الإنسان ليس في التفكير فيما يملكه بل في الثقة فيما يملكه.

إننا نتعجب من حال إنسان ”مشرد“ في الشارع بلا مأوي بينما يتمتع بملء السلام. هذا الإنسان لا يقلق لأنه فقد التفكير. لذلك فإن السلام يبدأ في العقل وثقته ويقينه الذي يقنع النفس وقت الاضطراب.

” الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهَر بَعد ماذا سنكون .ولكن نعلم أنه إذا أُظهِر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو“ (١يوحنا ٢:٣)

وبالتأمل في هذه الآية نجد أنها تشرح ما تقدم بوضوح، فهي لا تَدَّعي السيطرة على ما ستأتي به الأحداث، سواء كانت أحداث اليوم الجديد أو أحداث العمر كله أو أحداث ما بعد العمر كله … ومَن يستطيع هذا مهما كان ما يملكه؟

لذلك فإن فقدان التفكير كما في حالة المشردين، أو كما في انخراط الإنسان بسرعة في نشاطات يومه وبالذات الروتينية ومن أهمها الارتباط بالعمل (وبالنسبة للمرأة بالذات مسئوليتها الكونية نحو طفلها وربما أسرتها)، تجعل القلق يتراجع التفكير فيه بمرور اليوم. ويسترد الإنسان ثقته في سيطرته على مجريات الأحداث بمرور ساعات النهار إلى أن يأتي الليل ليختبأ ويستريح الإنسان.

ولقد هيأ الخالق سبحانه للإنسان آلية نفسية تبدأ في التكون منذ ولادته لمجابهة هذا القلق من المجهول كل يوم والذي هو كفيل أن يقضي على الإنسان لو لم يوجد ما نسميه في الطب النفسي Basic Trust / الثقة الأساسية في تكوين الإنسان النفسي، بحيث يثق البشر وبقدر متوازن من السلام ضد المخاطر بأن الأمور ستؤول إلى خير، أو ربما يتلاشى التفكير في المخاطر تدريجيا بحيث لا تعود تشغله.

كمثال لهذا: ربما لا أحد مِنا يراوده القلق عندما يقود سيارته بسرعة بسبب تفكيره أن المرور في الاتجاه المعاكس سوف يتجاوز الخط الأصفر في منتصف الطريق ويصطدم بسيارته؟

إن علاقة الطفل بأمه (أو من يقوم بدورها) هي أساس تكوين Basic Trust في الإنسان. وهي تبدأ بعلاقة جسدية حسية بينهما لتنمو بعد ذلك وتصير علاقة كيانية داخل الإنسان تحفظ اتزانه بتأصل Basic Trust في عقله وفكره ومشاعره بدون وجود شخص الأم فيما بعد.

إن امتداد البحث عن أصول Basic Trust في الإنسان سيقودنا إلي أن أساساتها إلهية ترجع إلي خلق آدم وعلاقته بالله الخالق في الجنة، ومقدار الثقة التي انطبعت في كيان الإنسان واستمرت فيه بعد تغربه عن الله وخروجه من الفردوس (والكلام عن هذا يطول). ثم تكَّملَت في سيرة المسيح ”الله الذي ظهر في الجسد“ (١تيموثاؤس ١٦:٣).

وبالاختصار فإن مرجعية Basic Trust هي مرجعية إلهية متأصلة في علاقة الله الأبوية بالإنسان، والتي عندما جاء ”ملء الزمان“ إستعلنها الله في ذاته للبشر بأنه سبحانه طبيعة لاهوتية واحدة، ذاتية الحياة في الروح القدس، ذاتية الأبوة في الله الآب، وذاتية البنوة في المسيح ابن الله.

فهذه المرجعية الإلهية لــــ Basic Trust لا توجد في تاريخ البشر إلا في أستعلان الله لأبوته في خلق آدم و اكتمال إعلان أبوته بظهور الله في الجسد بتجسد المسيح .

هذا هو أساس تفسير آية هذا المقال:

” الآن نحن أولاد الله ، ولم يُظهَر بعد ماذا سنكون ولكن نعلم أنه إذا أُظهِر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو“ (١يوحنا ٢:٣)

فهذه الآية تكشف لنا عن أن علاقة الله الأبوية بنا منذ الخلق هي السبب الكوني والوجودي، لــ Basic Trust أو رجاء الإنسان أمام كل ما هو مجهول بالنسبة لنا في الحاضر والمستقبل ، و هو عبارة ” لأننا سنراه كما هو“.

ولو سأل أحد نفسه عن تعريف ” كما هو“ وما هو مرجع هذا التعريف ، فباختصار فإنه لا يجد في تاريخ البشر إجابة إلا سيرة أبينا آدم التي تكَّملَت في سيرة المسيح ”الله الذي ظهر في الجسد“.

فإن ما يجعل رجاء البشرية أكيد في الحاضر والمستقبل هو أنه سبق واختبره الإنسان كيانياً ووجودياً في العلاقة مع الله في آدم والمسيح ”نحن الذين قد سَبَقَ رجاؤنا في المسيح“ ( أف ١٢:١) .

فإن الرجاء المسيحي -علي عكس رجاء البشر الذي يتنظرونه ليتحقق في المستقبل- فإن الرجاء المسيحي هو مستقبل مُعاش في الحاضر لأنه تحقق في الماضي. فالرجاء المسيحي هو شخص المسيح فينا بمجده ومجد أبيه والروح القدس ”المسيح فيكم رجاء المجد“. (كولوسي ٢٧:١)

لذلك نجد أن الآية موضوع هذا المقال تغطي كل مساحة الزمن المخلوق Choros والزمن الغير المخلوق Chronos :

” سنراه كما هو“ وتخص علاقتنا بالله في آدم والمسيح …” الآن“ وتخص علاقتنا بالله في الحاضر ..” ما يُظهَر بَعد وماذا سنكون“ وتخص علاقتنا بالله في المستقبل سواء غداً أوالآبدية… لهذا نحن المسيحيون نبدأ يومنا بالرب واثقين وقائلين : ” علي كلمتك أُلقي الشبكة “ ( لوقا ٥:٥)

والسُبح لله