دردشة…بالعربي الفصيح:
ثقيلة هي ثياب الحملان! (قصة قصيرة)(11)

ملخص ما سبق: اختار الباشمهندس صاحب الشركة المراقب الشاب أبو صلاح ليحل محله مؤقتاً خلال سفره ودربه بنفسه. لكن بعد فقدان طائرة الباشمهندس، أصبح أبو صلاح مديراً رسمياً للشركة وبدأ تغييرات جذرية في هيكلة الشركة واستقال بسببها المراقب كاظم و رفض العودة في ظل تلك التغييرات بلا رجعة. وتشاجر نزيه مع أبو صلاح بسبب هذا الموقف فهدده بالطرد…فانصرف مهزوماً!، و قبل موعد حفل ذكرى افتتاح الشركة يصرح أبو صلاح للقاريء بصراعه الداخلي بين كبرياءه المتسلط، و ألمه من حقيقة آراء من حوله فيه!!! لكنه يرفض أن يتغير و إلا إنكسر! وبدأ حفل ذكرى الافتتاح على ما يرام، حتى ظهر الباشمهندس من جديد وسط الحشد و تعالت نداءات الناس الفرحة حوله!
حلقة ١١ والأخيرة
الدينونة
أرى جميع المدعوين يتدافعون إلى مؤخرة القاعة للترحيب بالباشمهندس، بينما تقهقرتُ أنا بظهري مستنكراً نحو المقدمة، حتى ارتطمتُ بالمنصة التي يقرأ عليها أكرم. فنظرتُ ورائي وإذ بحماسه متوارٍ خلف ملامح ذعر تائهة... مثلي... فكلانا مهددان الآن...
فسألني بنبرة عالية قلقة، تحاول أن تزاحم ابتهالات الجمع حتى تصل إلي:
- مالك…قلقان كده ليه؟…إثبت…احنا تمام مش كده؟!!
- تمام يعني ايه؟
- انت فاهمني يا ابو صلاح…يعني احنا لسة زي ما احنا في الشركة؟
- لأ…
- لأ إزاي؟
- انا ما غيرتش ورق الشركة…كل صلاحياتي كمدير تنتهي لما يرجع الباشمهندس!!
- ازاي تنسى حاجة زي كدة؟!!
- ما نسيتش…بس مالاقيتلهاش داعي…دوشة محامي و مصاريف وإجراءات…
فسأل بتهكم:
- إجراءات؟
- هو أنا كنت بأشم على ضهر ايدي أنه راجع…
- طب اشرب بقى…أنا هامشي من سكات قبل ما اتحط في موقف سخيف…و انت كمان لازم تمشي…
- مش هامشي…عايز أعرف رجع إزاي؟… حتى لو مشيت…مافيش مفر من الحساب!! لو مش دلوقتي…هيبقى بعدين!!
- طب خليك انت يا حبيبي في الوهم دا… انما انا خالع…إنت عالاقل ممكن ترجع مراقب تاني…بس انا لايمكن اقبل ابقى عامل تاني…أنا أتقطع عيشي خلاص…سلام…
و أختفى عن الحفل في هدوء…و تركني أعزلاً أواجه مصيري…
طفق الجميع بسعادة يدعون الباشمهندس إلى المنصة، فركضتُ سريعاً من مكاني وسط الزحام و وقفت في آخر القاعة، أترقب ما سيحدث...
تقدم بدوي والباشمهندس إلى المنصة بشموخ، ولاحظتُ في عيني بدوي، رغم المسافة التي بيننا، فرحةً صادقة لم أرها مطلقاً من قبل، وكأن حباً صافياً يغمرهما!! واجتذب بدوي الميكروفون نحوه ليقدم مديره العائد من بعد طول غياب:
- كله يقعد مكانه لو سمحتم…
انتظر بضع ثوان حتى اتخذ الجميع مجالسهم وهدأت القاعة، أما أنا فاحتجبتُ بسرعة وراء أحد أعمدة القاعة الخلفية حتى لا يراني أحد وأنا أختلس النظرات السريعة نحو المنصة، ثم واصل بدوي:
- النهاردة…احنا مش بنحتفل بعيد ميلاد الشركة خلاص…احنا بنحتفل برجوع حبيبنا لشركته و لأهله…النهاردة احنا كلنا بنحتفل بعودة …الباشمهندس…
عجباً... تعالى الهتاف والتصفيق دون افتعال أو تمثيل... وكأن الكون قد تبدل... يتهافت المدعوون اليوم لسماع كلمات الباشمهندس... بينما أنا المنسي في خضم هذه الضوضاء أرتاب مع دقائق الساعة؛ لي فضول أن أسمعه لأعرف كيف نجا ولماذا عاد في صمت؟! في الوقت نفسه أرى في الأفق حتفي لا محالة... وها هو يحتل المنصة بكل كرامة وتبجيل ليبدأ حديثه:
- وحشتوني…وحشتوني بجد!!!
وقف الجميع احتراماً مهللين لتلك المشاعر الفياضة... هو يعلم تماماً كيف يدغدغ عواطفهم بمصداقية ونزاهة... ثم ما لبثوا أن جلسوا ليسمعوا مغامرته:
- لما سافرت اليابان أنا والعائلة، المدام والأولاد حبوا يمدوا الرحلة زي ما الكل عارف انهم انبسطوا من الوقت اللي مقضيينه مع بعض…فمدينا ٣ أسابيع كمان…المدة دي كانت أجازة مش شغل…انبسطنا فيها جداً…بقالنا كتير ما اتجمعناش كده…و بعد الإجازة…رحنا المطار عشان نلحق طيارتنا؛ اتأخرنا شويتين…عادي زي المصريين… على آخر لحظة…
ملأت القاعة بعض الضحكات السريعة المتناثرة، فأكمل بابتسامة:
- و لأجل الحظ برضه…الطريق كان متعطل بسبب حادث مرور…نهايته…من هنا لهناك فاتتنا الطيارة، و كان لازم نستنى يوم كمان عشان ناخد اللي بعدها…لكن يشاء ربنا إننا نسمع باختفاء الطيارة الأولانية قبل ما ناخد الطيارة التانية! انصدمنا طبعاً كلنا…ومن الصدمة و الخوف لغينا الطيارة التانية…حسينا اننا لازم نعيد حسابتنا من جديد…حسينا الدنيا دي…مجرد محطة…ماتستاهلش كل الهري اللي احنا فيه…فقررنا أنا و العائلة اننا نستمتع شوية أكتر بوقتنا…لان حقيقي…الأوقات دي ما تتعوضش…لإنه من غير ما نكون في الطيارة اللي ضاعت، حسينا بالموت كأننا كنا فيها بالظبط…و عشان كده باطلب من كل واحد فيكم إننا نهدا…لان الدنيا مش هتطير…بس إحنا اللي ممكن نروح في لحظة…و عشان كده غبت عنكم الغيبة دي…عشان أتصالح مع نفسي شوية…غبت و أنا متطمن اني سايب ورايا جدعان...و أوعدكم إن الايام اللي جاية إن شاء الله هتبقى أهدأ…كله هيخلص في وقته بدون قلق، بدون توتر…و أنا باشكر كل الناس اللي خلت الشركة دي فعنيها في غيابي…
سمعتُ تلك الكلمات وأنا ألعن الظروف والقدر الذي غدر بي بعد ظني أني أعيش المعجزة! هو يشكر كل من سعى في استمرار الشركة ويدعوهم "جدعانًا"! لازلتُ لا أفهمه... من المؤكد أنه كان متابعاً لأمور الشركة وقت غيابه... كالحاضر الغائب! فهو يعلم إذن ما جرى! قد يكون هذا الشكر مجرد مقدمة لإذلالي أمام الجميع!! لكني لن أنتظر حتى تبدأ المحاكمة، فقد ملكني الرعب... لن أصمد أكثر أمام عبثه بأعصابي... فخرجتُ من خلف العمود وصحتُ برعشة:
- أنا عارف إنت ناوي على إيه يا باشمهندس!!!
نظر الجميع إلى الوراء، وحاول الباشمهندس جاهداً أن يحدد مصدر الصوت وصاحبه بسبب قوة الكشافات المسلطة على المنصة بينما وقفتُ أنا في الظلال الخلفية للقاعة... فقال مخمناً بابتسامة:
- أبو صلاح؟!!
فصرخت بخوف:
- حمدي يا باشمهندس…حمدي!
أما هو فلا زال مبتسماً و ابتدأ في الثناء:
- حمدي يا جماعة…شاب جميل، طموح، استشفيت فيه مدير شاطر ما جاتلوش الفرصة المناسبة…و عشان كده جيبت له الفرصة لحد عنده…
غير قادر على الاستماع لهذا الكلام المعسول... فأنا أعرف تماماً ما ينتظرني؛ هو يلاطفني الآن لأذوب في رحاب صدره، ثم يفتك بي أمام الجميع... هو غامض منذ عرفته... فقاطعته برجفة واضحة في صوتي:
و أنا ما كنتش قد المسؤوليه…كنت عايز ابقى أكبر حاجة…كنت مستني خبر موتك بفارغ الصبر عشان أمسك أنا الشركة براحتي…زهقت من تمثيل دور الحمل الوديع…المطيع اللي دابماً ماشي بتوجيهات اللي اكبر منه…عايز أنا كمان أكبر…كفاية ذل بقى…بس آنا آسف…أنا بأعترف إني غلطت… طهقت من المحبة الزيادة اللي مالهاش أي مبرر في نظري غير أنها مفتعلة…شايف كله بيمثل…بس الوحيد اللي حيرني هو انت يا باشمهندس!!! انت الوحيد اللي مش قادر أفهمه…مش لاقي فيك عيب…و دا اللي هيجنني…مش قادر أعرف مخبي لي ايه؟…حقيقي مش عارف ناوي لي على ايه…ناوي لي على ايه يا باشمهندس؟!!
صمت الجميع منتظرين رد الباشمهندس!
"لا نية لي يا حمدي سوى مستقبل الشركة الذي هو مستقبلكم!" قال هذا دون أن تختفي ابتسامته البريئة من على وجهه، ثم ما لبث أن نظر بجواره نحو بدوي بتودد وسأل على سبيل المزاح غير منتظرٍ إجابة:
- بيتهيألي فيه بوفيه الليلة دي؟؟ مش كده ولا الناس هتقعد على لحم بطنها؟! …اتفضلوا على البوفيه…
نهض الجموع والتفوا حوله متجهين نحو مائدة الطعام على جانب القاعة بينما تفاديتهم انا حانقا…
ويحي!!! ماذا فعلت؟... فضحتني علناً وما كنت أرجو سوى الرحمة!! استفزني بثباته، وهزمني بلطفه... لم أستطع الصمود أمام رقته القاتلة... رغم حزمه المعروف... أذلني بحكمته وتركني كارهاً لهذا التجمع كله!!! مشمئز من بهجتهم من حولي؛ أراهم يأكلون أمامي بشراهة ونهم، بينما أكاد أنا أتقيأ بغضاً وغيظاً! نفسي مغتمة حتى الموت... وأنا من جلب تلك التعاسة على روحي! ها أنا وحدي... تغطيني ظلال القاعة ولا مكان لي هنا... ألعل الجحيم أرحم؟... أو ربما هو الجحيم؟
بل... هو الجحيم بعينه!
هو الجحيم... الجحيم!!!
تمت