جود نيوز الكندية

ما تنسوا بحر البقر يا شعب قلبه أسود!!

-

سمعت من كام يوم الصحفي "إبراهيم عيسى" وهو بيطرح وجهة نظر مهمة وجديرة بالنقاش، لأنها بتحمل رسالة محبة وتعايش، ودعوة لطي صفحات الماضي، ونسيان أمور تافهة كده زي القتل وقصف الأبرياء، خصوصا إنه عدى عليها عشرات السنين.. عيسى كان بيتساءل مستنكراً، وأحيانا مقهقها.. ليه يا جماعة مش عايزين تنسوا مجزرة بحر البقر، زي ما "نسيتوا" حادثة دنشواي، و"نسيتوا" موقعة 25 يناير 1952 بالإسماعيلية!!

الراجل بعد الكلام ده، تعرض لحملات من الإهانة والسب، وذهب آخرين لاتهامه مباشرة بالخيانة والعمالة، بل اتهموه في دينه ومعتقده.. وانا الحقيقة ضد كل ده، مش لأني معجب ومتعاطف، أو كنت قارئ مواظب لقذائف الصحفي الجسور أيام ما كانت السبوبة وأكل العيش مرتبط بالكلام عن القضية الفلسطينية، والمقالات الساخنة الحماسية اللي بتنسج الاشعار للمقاومة وحزب الله، و"السيد البطل" من وجهة نظره "حسن نصر الله" وبتهين إسرائيل اكتر من الحاج شعبان عبد الرحيم ذاته، وبتجلد الحكام بأقذع الألفاظ والأوصاف.. لأ .. انا رافض الإهانة، لكني لا أرفض الإتهام بالصهينة، لأنه مش اتهام في دين أو عقيدة.. ما بيننا ناس هتعيش وتموت على دينها اللي في البطاقة، ويتدفنوا في مقابر المسلمين أو المسيحيين، ويتصلى عليهم في الحامدية الشاذلية، أو كنيسة الملاك في الشيراتون، بس هيموتوا صهاينة عادي جدا.

لأن الصهيونية مش دين.. الصهيونية فكرة.. ايدلوجيا.. ليها حسابات وطبيعة تفكير.. الصهيونية قائمة على الفكر الانتهازي.. طمس الهوية والتاريخ.. التدليس، وتلفيق الروايات.. الصهيونية لا تنسى انها تستدعيلك بذرة حقيقة في حرب الروايات، لكن الهدف هو أحاطتها بجبال من الغش والأكاذيب..

حقيقةً، معرفش أنهي شيطان أوحى للأستاذ عيسى أنه يفرم حجته ومنطقه تماما، ويفسد بايده طرحه المدلس بأنه يستدعي الواقعتين دول تحديدا.. "دنشواي" - " 25 يناير"!! عشان يربط ما بينهما وبين مجزرة بحر البقر! لأن ده هيطرح سؤالين.. الأول: هل المصريين نسيوا اصلا جرائم الإنجليز عشان ينسوا بحر البقر؟

والثاني: ايه الفرق الجوهري بين الحالتين؟

إجابة السؤال الأول: كل جرائم الاحتلال والاستعمار والحروب منذ بدء الخليقة لا تُنسى ولا تمحى من التاريخ، وبتفضل عالقة في وجدان الشعوب وذاكرة الأمم، وتراثها ومخطوطاتها وداخل صفحات رواياتها وكتبها وحتى مناهج تعليمها.. في أفلامها الوثائقية والتسجيلية والسينمائية.. في المسرح والتليفزيون والأغاني الوطنية والاوبريتات.. دول الإتحاد الأوروبي اللي نحروا من بعض ملايين وأبادوا من بعض مدن كاملة اتمسحت من على الخريطة، أسسوا الآن سوق مشتركة وعملة موحدة، وأصبحت نقاط الحدود بين بعض البلاد شارع أو رصيف.. لكن لحد دلوقتي لسه الأفلام الوثائقية والحربية، والكتب والمقالات اللي بتوثق الأحداث من وجهة نظر كل طرف سواء بالتأييد أو الإدانة لم تتوقف لحظة واحدة.. كل ده ليس معناه إن العداوة مستمرة، أو إن النفوس مليانة حقد وغل ورغبة في الاعتداء وإعادة إنتاج الحرب.. لكنه ذاكرة شعبية.. تاريخ لابد أن يوثق لاستخراج العبر والدروس، والوقوف على أحداث وعوامل وظروف وأخطاء الماضي، عشان يبقى نقطة انطلاق للحاضر ورؤية لما يمكن أن يكون عليه المستقبل.. كذلك العقل الجمعي للمصريين.. يتجاهل عيسى أنه حتى الآن تحتفل المنوفية بيوم جريمة دنشواي عيد قومي للمحافظة، وإن مركز دنشواي تحديدا به متحف يوثق بالمخطوطات والتماثيل وقصاقيص الجرايد اللي بتحكي كل أحداث المذبحة، والمحاكمات الجائرة وأحكام الإعدام الظالمة.

يتجاهل مئات الكتب وعشرات الأفلام اللي تناولت الواقعة، حتى إن آخر فيلم تاريخي تم عرضه مؤخرا كان "كيرة والجن" اللي تناول حادثة دنشواي بشكل مكثف وسط التصفيق والبكاء في قاعات العرض اللي ممكن يكون هو نفسه أحد الحاضرين، وقد يكون بكى هو الآخر حتى ابتلت حمالاته المميزة.. يتجاهل عيسى إن المصريين شعبا وحكومة وإعلام، يحتفلوا من كل عام بالخامس والعشرين من يناير، عيدا للشرطة، تكريما لكفاح وبطولات رجال شرطة الإسماعيلية ضد استبداد وقمع الإنجليز.. تلك الإجابة مختصرة جدا عن سؤال: هل نسى المصريون دنشواي وغيرها؟

أما بالنسبة للسؤال الثاني عن الفرق بين دنشواي وبحر البقر، فالإجابة باختصار شديد: الاحتلال الإنجليزي "خلاص" يا حبيبي!! ماضي انتهى بنهاية حقبة استعمارية.. معادش فيه مندوب سامي ولا حاكم عسكري انجليزي ولا مصر فضلت مستعمرة تابعة للتاج الملكي البريطاني.. الفرق الجوهري إن مفيش مصري من اللي بتستخف دمك عليه وتقول له ما أنت بتتفرج على الدوري الإنجليزي هيقدر يقول لمواطن إنجليزي: أنت اللي جدك قتل أجدادي في دنشواي وإسماعيلية، ولا يقول لفرنسي أنا عايز حقي منك عشان جدك نابليون قتل المصريين ودنس الأزهر.. ده هيتاخد على مستشفى الأمراض العقلية.. لكن في نفس الوقت هتلاقي الإنجليزي اللي رافض دنشواي، والفرنسي اللي بيستعر من جرائم بلده الاستعمارية ومجازرها في أفريقيا السمراء والمغرب العربي..

جريمة بحر البقر وكل جرائم الصهيونية باقية ببقاء واستمرار الاحتلال .. دم 30 طفل غرق التختة والكراريس بالإضافة لمئات الجرحي واللي لازال بعضهم عايش باعاقته، دم الأسرى في 67 اللي تم سحقهم تحت جنازير الدبابات، وعظام الموتى اللي تم إجبارهم على حفر قبورهم بأيديهم، جرائم لا تسقط بالتقادم يا عيسى.. الإنجليز رحلوا وشعبهم معترفين بجرائم أسلافهم، أما الصهاينة فإلى اليوم أرضك هدفهم، ولم يعتذروا أو حتى يعترفوا بجريمة واحدة ارتكبوها، بل على العكس لازالوا يبررون بكل صفاقة، حتى أن مفاوضات كامب ديفيد كادت أن تتعثر بسبب رفضهم القاطع للاعتراف ببحر البقر تحديدا اللي قال عليها موشي ديان كانت ضربة لمعسكر جيش مصري جعل من الأطفال دروع بشرية!!

عرفت ليه يا عيسى لن ننسى ولن نغفر؟ لأن العدو لم يترك لنا رفاهية النسيان من الأساس..

عرفت إن قرار أي شخص منسحق أنه ينسى ويتعايش مع قتلة، قرار ملوش وزن ولا اعتبار عند محتل، فخور بجرايمه اصلا وغير معترف بها، ومش شايفك غير حيوان بشري، سواء كنت مقاوم عنيد أو منبطح جبان .. أو حتى محب ومعجب!!