من الكاتب؟ (٣)

بنعمة الرب أثبتنا في المقالات السابقة أن كاتب الرسالة إلى العبرانيين هو القديس بولس الرسول. ولكن لم يسلم التاريخ الكنسي من بعض الأبحاث والأفكار حول كاتب هذه الرسالة. فنتطرق اليوم إلى فكر القديس أوريجانوس او العلامة أوريجانوس، كما يطلق عليه، وهو أحد أهم مفسري الكتاب المقدس. فإذا ماذا كتب يوسابيوس ناقلا عن اوريجانيوس؟ سنضع ترجمة القمص مرقس داود اولا ثم يليها ترجمة ويستكوت للنص الأصلي والذي نقله الأب متى المسكين في مقدمة شرحه للرسالة، فيقول الأول: "وإن سُمح لي بإبداء رأيى قلت ان الأفكار هي أفكار الرسول، أما الأسلوب والتعبيرات فهي لشخص تذكر تعاليم الرسول، ودون ما قاله معلمه عندما سمحت له الفرصة. لذلك إن أعتقدت أية كنيسة أن بولس هو الذي كتب هذه الرسالة فلتقبل لأجل هذا. لأنه لابد أن يكون للأقدمين تعليلهم عندما سلموها إلينا على اساس انها للرسول. أما من كتب الرسالة يقينا فالله يعلم. يقول بعض من سبقونا إن اكليمندس أسقف روما كتب الرسالة، والآخرون إن كاتبها هو لوقا، مؤلف الإنجيل وسفر الأعمال، وفي هذا ما يكفي في هذا الصدد".
أما ترجمة ويستكوت للنص الأصلى لتاريخ يوسابيوس الخاصة بهذا الجزء، فقد نقلها الآب متى المسكين في شرحه هكذا: "إذ كنت أقول رأيى – فى الرسالة الى العبرانيين – فإننى أقرر أن الافكار فيها هى أفكار بولس الرسول، ولكن اللغة والتركيب اللغوي هما لواحد يسترجع من الذاكرة، أو كأنه يعود الى مذكراته التى دون فيها ما قيل بفم معلمه. لذلك فإن كانت أية كنيسة تُقرر ان هذه الرسالة لبولس الرسول فهذا حسن وموافق فى هذا الامر لأنه يخص حقيقة لا يُناقش فيها، لأنه لم يكن بدون سبب أن الآباء السابقين فى الأزمنة السالفة سلموها لنا باعتبارها أنها لبولس الرسول، إذ هي تشرح فى جوهرها آراء بولس الرسول، أما فيما يخص كتابة الرسالة على وجه التاكيد فالله وحده يعلم ذلك، فالتقرير الذى وصل إلينا هو على وجهين، وجه يقول إن كليمندس الذى صار اسقفا على روما هو الذى كتبها وآخرون يقولون من وجه آخر انه لوقا هو الذى كتبها والذى كتب أيضا الإنجيل و سفر الاعمال. أما عن هذا الأمر فأنا لا أقول أكثر من ذلك."
إننا نفهم من هذا أن السبب الذي جعل اوريجانيوس يُخالف التقليد الكنسى وتسليم الآباء هو انه وجد اختلافا في اللغة وأسلوب الرسالة عن بقية رسائل القديس بولس، ولكنه لاحظ ايضا ان جوهر ومضمون الرسالة وتعاليمها هو من فكر القديس بولس، لذا قرر اوريجانيوس لكي يحل هذه المشكلة عقليا ان يقول بأن الرسالة هى من كتابة وصياغة أحد تلاميذ القديس بولس ولكنه أخذها عن فكر القديس بولس كما لو كان يتذكر ماذا قال بولس بشأن عقيدة الفداء ثم يضعه بصياغته هو!
منطقيا وفلسفيا، فلا يمكن أن يكون كل التقليد الآبائي على خطأ واوريجانيوس وحده صحيح. هذا يتضح لنا إذا عرفنا إن السبب الذي جعل اوريجانيوس يُقر بكتابة غير بولس للرسالة له العديد والعديد من التفاسير والحلول الأخرى، فلو أنك نظرت الى اسلوبى انا شخصيا فى كتاباتى العقيدية التى أوجهها لشرح العقيدة للإنسان المسيحى ستجد إختلافا شاسعا عن كتاباتى فى الرد على الشبهات التى أوجهها ضد إنسان غير مسيحي، أعنى هذا شيء طبيعى جدا ان تجد اختلافا فى الاسلوب بين كتابات أى إنسان. حينما أمسكت لأول مرة بكتاب لاهوت المسيح لقداسة البابا لم اقرأ غلاف الكتاب أولا ولم أكن أتخيل أن يكون هذا أسلوب قداسة البابا الذي أعتاد جميعنا على أسلوبه الروحى البسيط الأبوى المُرشد حياتياً وحينما قرأت غلاف الكتاب لم أستطع أن اتخيل كيف يمكن ان يصدر من صاحب العمق الروحى هذا البُعد اللاهوتى!
هل هذا يجعلنى أقول ليس قداسة البابا صاحب كتاب لاهوت المسيح؟! بالطبع لا، وهذا نفس ما حدث مع اوريجانيوس بالضبط فهل نجعل الخطأ فى التقليد الكنسى الآبائى ام فى اوريجانيوس؟ العقل يقول ان اوريجانيوس خانه التفكير فى السبب الحقيقي وراء ما قاله، يتضح هذا إذا عرفنا إن اوريجانيوس نفسه تراجع عن قوله هذا كما قال الأب متى المسكين وتمسك بما قاله التقليد الكنسي…

