لماذا يزور البابا لاون هذه البلدة التركية الصغيرة؟

للوهلة الأولى، لا يبدو أن بلدة إزنيق التركية الهادئة، التي تبعد نحو ساعتين بالسيارة عن إسطنبول، كانت ذات يوم مدينة قديمة غيّرت مسار التاريخ.
يكفي نحو نصف ساعة لعبور البلدة التي يقطنها نحو 45 ألف نسمة، عبر شوارع ضيقة ذات طابع قديم تصطف على جانبيها شرفات تفيض بالورود واللبلاب.
ويمكن الوصول إلى ضفاف بحيرة إزنيق في الجهة الأخرى من دون ملاحظة أي إشارات تُذكر إلى أن هذا المكان كان يوماً عاصمة لكل من الإمبراطوريتين البيزنطية والعثمانية.
ومع ذلك، تستعد البلدة التي كانت تُعرف قديماً باسم نيقية لاستقبال البابا لاون الرابع عشر، زعيم الكنيسة الكاثوليكية، في أول رحلة خارجية له منذ تنصيبه.
الرحلة تتمحور حول مراسم سيحضرها البابا إلى جانب بطريرك القسطنطينية المسكوني برثلماوس وعدد من القادة المسيحيين، لإحياء الذكرى 1700 لانعقاد مجمع نيقية الأول عام 325 ميلادية.
وكان من المقرر أن يجري هذا الحدث في عهد البابا الراحل فرنسيس، الذي توفي، لكن المراسم أُرجئت بعد وفاته.
قال البابا لاون الرابع عشر، إن "أحد أعمق الجروح في حياة الكنيسة اليوم هو أننا كمسيحيين منقسمون".
وأضاف أنه شجّع بشكل خاص على إحياء ذكرى مجمع نيقية لأنه يمثّل أرضية مشتركة لمختلف الطوائف المسيحية.
وسيكون لاون الرابع عشر خامس بابا يزور تركيا، ولا تتوافر إحصاءات رسمية عن أعداد المسيحيين فيها، لكنّ تقريراً لوزارة الخارجية الأمريكية عام 2023 قدّر العدد بنحو 150 ألفاً، استناداً إلى إفادات مجتمعات مسيحية محلية.
لكن ما الذي يجعل إزنيق موقعاً محورياً بالنسبة للمسيحيين؟
نقطة تحوّل يكمن الجواب في القرن الرابع، حين انعقد مجمع نيقية الأول. في ذلك الوقت، كانت الإمبراطورية الرومانية تمتد من اسكتلندا حتى البحر الأحمر، ومن المغرب حتى صحارى سوريا والأردن والعراق المعاصرة. وكان على رأسها الإمبراطور قسطنطين الأول، أول إمبراطور يعتنق المسيحية.
قدّم قسطنطين للمسيحيين أوسع مجموعة من الحقوق القانونية منذ وفاة المسيح بنحو ثلاثة قرون، بما في ذلك السماح لهم بممارسة شعائرهم علناً.
وكان يسعى إلى جمع رجال الدين لحسم الخلافات العقائدية. وقد شكّل المجمع، الذي عُقد عام 325 ميلادية، نقطة تحوّل في التاريخين الروماني والمسيحي.
يقول المؤرخ تورهان كاجار من جامعة موغلا صدقي كوتشمان، إن رجال الدين كانوا قد قرروا في البداية الاجتماع في أنقرة المعاصرة، لكن الإمبراطور قسطنطين وجّه رسالة يأمرهم فيها بالتوجه إلى نيقية.
ويرى كاجار أن قسطنطين أراد أن يقود المجمع بنفسه، "لأنه كان يعرف من اجتماعات الكنيسة السابقة أن الأساقفة سيتشاجرون إذا تُركوا لأنفسهم".
ويرى المؤرخ أن قسطنطين الأول جعل من الدين "أداة دولة" عبر مجمع نيقية: "عندما وصل الأساقفة إلى نيقية، كانوا ممثلين لمجتمعاتهم. وعندما عادوا إلى مدنهم، صاروا ممثلين للدولة".
باولو رافاييلي، رئيس دير كنيسة القديس استفانوس الكاثوليكية في إسطنبول، يوافق على أن هذا المجمع شكّل اللحظة التي "بدأت فيها الكنيسة تعمل جنباً إلى جنب مع الدولة". ويقول إن المجمع ساعد في تحديد ركائز العقيدة المسيحية، مضيفاً أن التوافق حول طبيعة المسيح تبلور في نيقية.
جرى تحديد الإيمان بوجود إله واحد أزلي في ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس، وصيغ "قانون إيمان" يثبت القيم الأساسية للمسيحية. وكان تثبيت ألوهية المسيح محطة رئيسية في مواجهة ما عُرف بـ"الهرطقة الآريوسية" التي أنكرت أن يسوع هو الله.
البابا لاون الرابع عشر قال إن الجدل حول هذه الأفكار كان "واحدة من أكبر الأزمات في الألفية الأولى للكنيسة"، ما يعزز أهمية المجمع. ويعلّق رافاييلي على نتائج المجمع قائلاً: "هذا هو جوهر إيماننا كمسيحيين".
يشير البروفيسور كاجار إلى أنه عند انعقاد مجمع نيقية، لم تكن الكنائس المسيحية قد انقسمت بعد إلى كاثوليكية وأرثوذكسية، لذلك ينظر إلى هذا الحدث التاريخي بوصفه "منصّة توحيدية" لدى القادة الروحيين المعاصرين.

