جود نيوز الكندية

دردشة…بالعربي الفصيح:

سيكولوجية ”النفخ في الزبادي”!

-

إن مصطلح "النفخ في الزبادي"، كما يعلم الجميع، يُستخدم للتعبير عن صدمة تركت أثرًا في الإنسان، فأصبح بعدها يحسب بتدقيق زائد كل تصرفاته.

دعونا نشرح الموضوع من خلال ثلاث شخصيات نشأت في مجتمع شرقي، وأحاطتهم الظروف نفسها خلال نشأتهم؛ الأول اسمه رازي، والثاني اسمه هادي، والثالث اسمه سامي.

رازي إنسان تقليدي متحجِّر وغير متصالح مع نفسه. كل ما فُرض عليه من ظروف أجبره أن يكون على ما هو عليه اليوم. وعلى الرغم من هيئته التي قد توحي بغير ذلك، إلا أنه، في أعماقه، ضحية مجتمع متزمت، لكنه أصبح شريكًا له في تشويه الأجيال القادمة.

هادي أيضًا إنسان نمطي، لكنه منعزل، لا يُسمَع له صوت. هو كذلك ضحية، لكنه التزم الصمت واختار أن يكون غير مُؤثِّر.

سامي، على النقيض، مفكر ومُطَّلِع، يُعبّر عن رأيه إن لزم الأمر. كان على وشك أن يكون ضحية هو الآخر، لكنه أبى.

فكيف نشأ ثلاثتهم، وما الذي حل بهم ليصير كل منهم كما قرأنا؟

كان ثلاثتهم طلابًا في مجتمع شرقي؛ عانوا من نُظم تعليمية كانت تُطالبهم بقراءة نصوص وأبيات جاهلية صعبة الفهم، بل والتعليق عليها وشرحها. وقبل أن يتسنى لهم حتى أن يقولوا رأيهم الشخصي، فرضت المناهج عليهم إجابات نموذجية غريبة وبها ينجحون. لذا، لم يُروَّضوا على التعبير عن رأيهم أبدًا أثناء الدراسة، فلم يجدوا سببًا للتفكير ما دام الحفظ أسهل سبيلًا.

لكن حاول كل منهم مرة أن يجتهد، فتحالفت عليهم السكاكين على حدة: "ماذا أنت فاعل يا هذا؟ بأي سلطان تفعل هذا؟! من أين لك هذا؟"

ومن فرط صدمة هادي، تعلم الدرس والتزم الصمت... وصاهَرَ ما هو مُتعارف عليه...أصبح لا يجادل ولا يقول رأيه؛ بل يتكلم ويتصرف بجوار الحائط، وكبر وشاب على هذا المنوال.

أما رازي، فقد علمه الدرس ألا يجادل ولا يناقش، بل أن يحفظ ما يتعلمه جيدًا دون تفكير. لكن آلية دفاعاته النفسية، على خلاف هادي، دفعته لأن يستخدم الأسلوب نفسه مع من هم تحت إشرافه. ومن يجادلْه بحجة ما، يُشعره رأسًا بعدم الأمان، فيوبخه.

وأصبحت حياة كليهما، كبالغين، مجموعة من القوانين المحفوظة، واقتصر دور عقلهما فقط على التنفيذ الأعمى.

إنه الخوف يا سادة! هو الذي يُدير حياتهما الآن. بالنسبة لهادي: الخوف من إبداء الرأي والرهبة من ردود أفعال من حوله، والتعود على تلك الرتابة القاتلة أدى به إلى عدم الثقة بالنفس والتهميش. أما بالنسبة لرازي: فرغم المخاوف نفسها، لكنها قادته لممارسة اللعبة ذاتها لكي يصبح هو نفسه مؤثرًا بالسلب على من بعده.

حالة مُزرية يُرثى لها... وانعكست على حياتهما الأسرية والعملية والدينية.

يتعجبان من سامي الذي، على النقيض، أبى النفخ في الزبادي، بل تحرر من عبودية الروتين وتصالح مع وجود الرأي الآخر رغم التزامه الشخصي القوي بمبادئه. فما يراه هادي ورازي كهرطقة تزعزع ثوابتهما، يراه سامي مجرد رأي، لا أكثر ولا أقل، ولا تهتز له مشاعره.

فكيف تحرر سامي، وكيف تحجَّر هذان رغم نشأتهم الواحدة؟ الإجابة هي الرغبة في النمو في المعرفة.

والنمو في المعرفة هو توجه انتهجه سامي، بينما تحاشاه الآخران.

ارتضى هادي ورازي بواقعهما وتعقدا من الجدال فنفخا في الزبادي، وتوقف بهما الزمن هناك، فتحجَّرا. بينما سامي استقبل بداياته الركيكة غير المقنعة كمحطة مؤقتة أكدت له أن الله لم يخلق العقل لتجنب استخدامه، فتوسع في دائرة معارفه وأثقل ما تعلمه بالفهم، فتحرر وأصبح في نمو مستمر.

فبينما نجد هادي، التقليدي الصامت، يرتبك في هدوء، نلاحظ رازي التقليدي الثائر يعلو صوته ويدَّعي المعرفة، مرتكزًا على تلاميذه النمطين ليهاجم رأيًا مخالفًا، محولًا إياه إلى قضية رأي عام...بينما سامي الرصين، يبتسم في بساطة، ولا يأبه كثيرًا لما قيل إن كان غير مهم، وإن كان مهمًا، فيُقدم التعليم والرأي السليم بكل هدوء.

رازي يخاف ويثور لأنه لا يثق فيما تعلم، وهو يعلم جيدًا في أحشائه أنه لم ينضج... أما سامي فلا يخاف لأنه يعلم وعلى أساس متين، والأهم أنه ينمو باستمرار في المعرفة.

فمن لُسع من الحساء، لا يجب أن ينفخ في الزبادي كـ"حل" يا حضرات، بل كل ما عليه أن يتعلم الفرق بين ما هو بارد وما هو حار.