يحيي عواره يكتب: عندنا ثورة ! ( 4 )

-
بقلم: يحيي عواره
عندنا ثورة ! ( 4 )
______________
"النساء جئن بالملك إلى باريس، والرجال هم الذين ضيعوه !"
------------------------------------------------------------
يحيى عواره :
-------------
يختلف المؤرخون والمفكرون وغيرهم على توصيف نتائج الثورة الفرنسية التي اندلعت شراراتها الأولى بباريس في شهر يوليه عام 1789 وتحليل أسبابها، ولكن من المتفق عليه إلى حد كبير، أن هذه الثورة كانت من أهم الأحداث الكبرى في التاريخ الحديث، وأن آثارها كانت بالغة العمق والامتداد؛ فبعد أكثر من قرنين من الزمان، مازالت آثارها التي تجاوزت حدود فرنسا إلى أوروبا كلها وإلى العالم، تعمل عملها.
وسوف يكون لنا حديث عن القيمة التاريخية لهذه الثورة الكبرى في مقال منفصل، كما سنخصص مقالًا آخر عن أهم أسبابها العميقة والمباشرة وأهم مراحلها وأحداثها وما انتهت إليه من نتائج، وذلك لإدراكنا أن قدرًا من المعرفة بها، قد يكون مفيدًا في فهم وتحليل ما يجري بين ظهرانينا في هذه السنوات المشحونة بالتفاعلات و الإنفعالات.
ولكنني فضلت أن أستهل ما سنستعرضه عن الثورة الفرنسية فيما بعد، بمشهد درامي من مشاهدها المثيرة، استدعاه إلى ذهني الدور البارز الذي تؤديه المرأة المصرية في ثورة يناير 2011 وموجاتها المتتالية.
"النساء جئن بالملك إلى باريس، والرجال هم الذين ضيعوه !" ... بهذه العبارة الساخرة كانت نساء باريس يكايدن رجالها يوم 20 يونيه 1791، بعد اندلاع الثورة بعامين، حينما سرت أخبار هروب الملك لويس السادس عشر وأسرته من قصره بباريس في محاولة لعبور الحدود إلى خارج فرنسا والاحتماء بأصدقائه وأصهاره من ملوك أوروبا المتعاطفين معه والمتوجسين من نتائج استمرار الثورة إلى مداها.
وإليكم الحكاية ...
بعد تراكم استمر على مدى عقود من الزمان لأسباب الثورة والتي سنحاول استعراضها مستقبلًا، أتى بدء الأحداث المشهودة في يوم 14 يونيه 1789 حينما تم الإعلان عن تشكيل "الجمعية الوطنية" التي تجتمع في قاعة واحدة ويتم التصويت فيها على قاعدة (صوت واحد لنائب واحد) بغض النظر عن طبقات النواب، بدلًا عن "مجلس طبقات الأمة" الذي كان نظامه يعطي إمتيازات لممثلي النبلاء ورجال الأكليروس.
في هذا الوقت، كان الإحتقان يعم البلاد نتيجة لأسباب كثيرة، أهمها وأكثرها مباشرة هو الإرتفاع الباهظ لأسعار الغلال والخبز بسبب ضعف محصول هذا العام وضيق الناس بالبذخ والفساد الذي تتسرب إليهم أخباره عن حياة الأسرة المالكة التي تقيم بقصر ڤرساي والحاشية وأغنياء النبلاء.
وفي بداية أكتوبر 1789، أي بعد حوالي ثلاثة شهور من اندلاع الثورة، وحين كانت الفوضى والإضطرابات تعم باريس، تناقل الناس أخبارًا عن استدعاء الملك لفرقة جديدة لتدعيم حرسه الملكي، وعن إقامته لحفل باذخ على شرف هذه الفرقة بالقاعة الملكية الخاصة بقصر ڤرساي، وسرت الإشاعات عن أن عربدة ضباط الملك أثناء هذا الحفل قد وصلت إلى حد أنهم رموا شارة الثورة المثلثة الألوان على الأرض وداسوها بالأقدام، وقد أدى هذا تزايد سوء ظن الثوار بالملك واشعال حماسهم بدلًا من أن يلقي الرعب في نفوسهم كما قدر الملك ومستشاروه.
كان لويس السادس عشر وقتها يقيم مع أسرته في قصره بضاحية ڤرساي خارج باريس، جريًا على عادة ملوك فرنسا منذ قرن من الزمان، ولكن الباريسيين بدأوا، مع مشاعر التذمر، في النظر بغير ارتياح إلى إقامة الملك خارج العاصمة، واعتبروها تعاليًا ورغبة منه في العزلة عن الشعب ورغبة من حاشيته في البعد عن أي رقابة أثناء تدبيرهم للمكائد وللممارسات الفاسدة.
وحدث في يوم 5 اكتوبر 1789 أن اقتحمت فتاة باريسية مخبزًا للحصول على بعض الخبز عنوة، وخرجت منه وهي تهتف "الخبز .. الخبز"، فما لبثت أن أحاط بها عدد كبير من النساء في لمح البصر، وأخذن في التحرك صوب مبنى المحافظة وعلى طول الطريق انضم إليهن المزيد من النساء . وعندما وصلن إلى المبنى تعالى هتافهن طلبًا للخبز والسلاح، وبعد إشتباك مع بعض الحراس نجحن في كسر الأبواب والاستيلاء السلاح الموجود، ثم تحركت مسيرتهن متجهة إلى ضاحية ڤرساي، قاصدة إلى القصر الملكي. وصلت المسيرة إلى الضاحية بعد أن بدأ الظلام يخيم عليها، وقد أصابهن الإرهاق من عناء الطريق وسوء الطقس، فقضين ليلتهن خارج أسوار القصر، وفي الصباح الباكر، بدأت المناوشات مع حرس القصر الذي بدأ بإطلاق النار فأشعل الغضب والحماس في المتظاهرات، فتدافعن لاقتحام القصر ودخول الغرف الملكية والعبث بما فيها حتى وصلت بعضهن إلى غرفة الملكة ماري انطوانيت بعد أن غادرتها إلى غرفة الملك بوقت قصير.
وعندما وصلت أخبار الهجوم على القصر إلى الچنرال لافييت الذي كان قد عين قائدًا للحرس الوطني، حضر على عجل، ونجح في السيطرة على الموقف وانقاذ رجال الحرس من المتظاهرات الغاضبات، ولكن الهتاف استمر بالمطالبة بأخذ الملك وأسرته إلى باريس. ونجح لافاييت في طمأنة المتظاهرات بالاستجابة لهذه الرغبة عندما أقنع الملكة بالظهور في شرفة القصر وتبادل التحية مع قادة الحرس علنًا، ووعدهن بأن تنتقل الأسرة المالكة إلى باريس استجابة لرغبتهن.
وفي طريق عودتهن إلى باريس، كن يرددن أناشيد الظفر ويبشرن الناس بأنهن أتين إلى باريس ب "الخباز والخبازة والخباز الصغير"، كناية عن الملك والملكة وولي العهد. وقد عاد الملك فعلًا إلى باريس يوم 6 اكتوبر 1789.
وتمر أحداث كثيرة إلى أن يأتي يوم 20 يونيه 1791، أي بعد سنتين من اندلاع الثورة، حين قرر الملك بمشورة زوجته وحاشيته أن يحاول الفرار من فرنسا، لينجو بنفسه وأسرته وربما ليستعين بحلفائه من ملوك أوروبا في إخماد الثورة. ففي مساء هذا اليوم تسلل أفراد الأسرة فرادى متخفين من الحرس، وتقابلوا على طريق قريب من القصر كانت عربة بخيول تنتظرهم عليه لتنقلهم إلى خارج الحدود.
وعندما تم اكتشاف هروب الملك، سرى الخبر في باريس كلها مما أشعل غضب الناس وأثار قلقهم وعمت المدينة مظاهر الهياج الشديد.
كان الملك فد تخلى عن حذره بعد أن غادر قصره بيوم كامل، فتهاون في أمر تخفيه أثناء وقفة لتبديل خيول العربة التي تقلهم، فتعرف عليه بعض أهل الناحية وأحاطوا به وأعادوه إلى باريس ليلقى مصيره كما سنفصل في مقال قادم.
كانت الباريسيات يرددن حينها بسخرية أنهن سيقمن هذه المرة بالحراسة بأنفسهن لأنهن سبق لهن أن "أتين بالملك إلى باريس، ولكن الرجال هم من ضيعوه".
يحيى عواره
تورنتو