يحيي عواره يكتب: عندنا ثورة ! ( 5 )

-
بقلم: يحيي عواره
حكاية الرقيب "هولان" مع المركيز "دي لوني"
في اليوم الذي أصبح عيدًا وطنيًا لفرنسا ....
--------------------------------------------
وقعت حادثة اقتحام الباستيل في 14 يوليه 1789، وأعتبرت هذه الحادثة بمثابة الشرارة الشعبية الأولى لاندلاع الثورة الفرنسية، ولهذا أتخذ الفرنسيون منذ حوالي قرن من الزمان هذا اليوم عيدًا وطنيًا لهم تجرى فيه الاحتفالات والاستعراضات العسكرية.
كان سجن الباستيل في الأصل حصنًا شيد في العصور الوسطى لحماية باريس من جهة الشرق، على مساحة ثلاثة أفدنة، وأحيط بسور يبلغ ارتفاعه 30 مترًا، وحفر حوله خندق ممتلئ بالمياه بعرض 25 مترًا، بحيث لا يكون ممكنًا الوصول إلى بوابات الحصن إلا عبر قنطرة ترفع وتمد بدواليب تدار من داخل الحصن.
كان الحصن قد تحول مع الزمن الى سجن ذي سمعة جهنمية، وأصبح رمزًا لاستبداد وظلم السلطة الحاكمة، بسبب ما عرف من ممارسة لأقسى أنواع التعذيب خلف أسواره، على خصوم الملك وسجناء ما أعتبر بواسطة الكنيسة الرسمية جرائم عقيدة دينية، وذلك بمجرد إصدار أوامر اعتقال ممهورة بتوقيع الملك، ودون حاجة إلى أية محاكمة أو اجراءات.
في هذا اليوم 14 يوليه 1789، تجمع جمهور كبير من عمال الأحياء المجاورة للسجن، واحتشدوا متذمرين في مواجهة الحصن بغرض اقتحامه، وانضمت اليهم عدة فصائل من ميليشيات الثوار الحديثة التشكيل، وفصيلتان من الحرس الفرنسي.
كان جمهور الثائرين قد سبق له أن اقتحم مخازن أسلحة تخص الجيش في صباح هذا اليوم واستولوا على 32,000 بندقية و 5 مدافع، أما الحامية التي كانت بالسجن وموكول إليها مهمة الدفاع عنه، فقد كانت مكونة من 80 جنديًا فرنسيًا و 30 فردًا من الحرس السويسري، وكانت بحوزتهم كميات وافرة من الأسلحة والذخائر، ويعملون تحت قيادة المركيز دي لوني (Bernard-René de Launay).
ووفق رواية المؤرخ چول ميشيليه (Jules Michelet)، صاحب الكتاب الموسوعي "تاريخ الثورة الفرنسية"، فقد استمر التراشق بين حامية السجن والمهاجمين له لمدة 5 ساعات متصلة في معركة غير متكافئة نظرًا لتحصن المدافعين خلف الأسوار ووفرة ذخيرتهم، وقد كان الكثيرون من الجنود الفرنسيين من الحامية يؤثرون التسليم من وقت مبكر بعد بدء الاشتباك، إلا أن رجال الحرس السويسري مضوا في إطلاق الرصاص حتى قتلوا 83 رجلًا وجرحوا 88 فردًا آخرين وهم متحصنون بمواقعهم الآمنة. وفي حوالي الساعة الرابعة من بعد ظهر هذا اليوم المشهود، قرر الجنود الفرنسيون من حامية السجن أن يلقوا بأسلحتهم وناشدوا قائدهم القومندان "دي لوني" أن يأمر بإيقاف هذه المذبحة وأن يقوم بتسليم السجن للمتظاهرين، ويبدو أن القومندان كان قد قرر في غمرة الشعور باليأس الذي استولى عليه أن ينتحر بتفجير السجن بإشعال مخزن البارود، ولكن اثنين من صف ضباطه منعاه من هذا التصرف الطائش الذي كان حريًا بإحداث دمار يذهب بأرواح من هم بداخل السجن جميعًا، والمحاصِرين بالإضافة إلى إحداث دمار كبير في منطقة سكنية واسعة حول السجن أيضًا، ثم منعاه مرة ثانية من الانتحار عندما هم بقتل نفسه باستخدام خنجر.
بينما كان هذا ما يحدث داخل أسوار الحصن، قام جمهور المحاصِرين له بتوجيه فوهات مدافعهم إلى الحصن استعدادًا لدكه، فأدرك قائد الحرس السويسري أنه لا مفر للحامية من التسليم، فبدأ التفاوض مع ممثلين للثوار، كان منهم الرقيب السابق هولان (Pierre-Augustin Hulin) وذلك للتسليم بشروط رفضها ممثلو الثوار، غير أنهم تعهدوا بالحفاظ على حياة أفراد الحامية المستسلمين.
ورغم أن الثوار كانوا في غاية الغضب والانفعال عندما دخلوا إلى ساحة الباستيل، فانهم لم يقتلوا إلا رجلًا واحدًا وصبوا جام غضبهم على الساعة الحديدية وأسوار السجن الحجرية والمدافع الحديدية، فأوسعوها ضربًا وقذفًا بالحجارة حتى أدمى بعضهم أيديهم وقاموا بفتح الزنازين وأخرجوا السبعة الذين كانوا فيها وقتها والذين أصابتهم الدهشة الشديدة من جراء ما يحدث حولهم، فقد كانوا معزولين عن العالم لفترة طويلة قبل هذا الوقت.
خرج الثوار المنتصرون من السجن وهم يحيطون بأسراهم يشقون شارع سانت انطوان، متجهين إلى ميدان الجريڤ، حيث قابلتهم مجموعات أخرى من المتظاهرين المنفعلين ومجموعة من النساء اللاتي فقدن أزواجهن أثناء حصار السجن، فكن لذلك أكثر المتظاهرين رغبة في الانتقام والفتك بالأسرى، صرخت إحداهن طالبة سكينًا فأثارت من حولها حتى عم الهياج وأخذ الكثيرون يسعون للوصول إلى المركيز "دي لوني" قومندان الباستيل والذي كان في حماية الرقيب السابق "هولان" الذي كان مصممًا على الوفاء بعهده بالحفاظ على حياة المستسلمين مهما كلفه هذا، ولما تكاثر الساعون للوصول إلى القومندان لقتله، حاول "هولان" مستميتًا أن يتشبث به ويغطيه بجسده العملاق، ولما تنبه إلى أن المهاجمين يميزون القومندان برأسه العاري وضع قبعته على رأسه وأخذ يستقبل الضربات بدلًا منه. كان هولان على وشك أن يبلغ بدي لوني إلى مكان آمن نسبيًا عندما فقد توازنه بتأثير التدافع فتعثر وسقط على الأرض الحجرية مرتين متتاليتين، فأنتزع منه القومندان دي لوني، وعندما قام من كبوته وتلفت حوله، رأى رأس القومندان معلقًا على سن حربة مدببة.
يحيى عواره
تورنتو.