جود نيوز الكندية

يحيي عواره يكتب: عندنا ثورة (9)

-
اجابات مفتوحة على أسئلة معلقة: ---------------------------------- منذ اندلعت أحداث الثورة المصرية في مطلع 2011، تلح على أذهان الكثيرين منا أسئلة عنيدة لا نجد لها اجابات شافية. وقد لمست هذا بنفسي من خلال مناقشات وحوارات مجموعة من الأصدقاء ألتقي بهم أسبوعيًا بانتظام لسنوات طويلة، ومن خلال تواصلي مع غيرهم من المصريين بوسائل مختلفة أو بشكل مباشر. هذه الأسئلة تُطرح بالحاح وتواتر، لأنها تعبر عن قلق بشأن مصير الوطن وأمنه ومستقبله ولأن اجاباتها يسربلها الغموض وتضارب الاحتمالات، إجاباتها ليست محسومة وغير متفق عليها ومفتوحة على احتمالات عديدة، وأيضًا لأنها تخص حدثًا ضخمًا مازالت تداعياته تتوالى، ونعيش في قلبه؛ نشارك فيه وننفعل به. أول هذه الأسئلة: هل هي ثورة ؟ - لم يطرح هذا السؤال على نطاق واسع في الشهور الأولى من عام 2011، فقد غلب وقتها الشعور بالتفاؤل على الأغلبية التي تحمست للتغيير وشاركت بدرجة أو أخرى في فاعلياته، كما أحجم أنصار النظام القديم والمستفيدين من استمراره عن التعبير عن مواقفهم وعواطفهم، تجنبًا لمخاطر التصادم أو الاحتكاك مع تيار شعبي جارف ومتحمس، قد يتهمهم بالخيانة والعداء لتطلعات الشعب. بمرور الوقت، لمس كثير ممن أخذوا الأمر ببساطة في البداية، أن التغيير الذي حدث لم يكن بعدُ إلا تغييرًا سطحيًا، وأن الواقع تحت السطح أكثر تعقيدًا وتشابكًًا مما بدا لهم من قبل، ومع انتهاء المرحلة التي بدا فيها أن أنصار الثورة مجتمعون تحت نفس الرايات، ومع تكشف معلومات عن أدوار خفية لجهات اقليمية ودولية، بدأ السؤال يُطرح بوضوح وجرأة: هل هي ثورة؟... وتراوحت الإجابات عليه بين اعتبار الحدث ثورة تاريخية كاملة الأوصاف ومكتملة الأركان، واعتبار أنها مجرد مؤامرة دبرت لمصر بغرض القضاء على تماسك دولتها وهز استقرارها لصالح قوى أجنبية وبالتعاون مع تنظيمات وجماعات محلية لا تتمتع بقدر كافٍ من الولاء للوطن أو الإدراك السليم لما تورطت فيه من علاقات وفاعليات. ومع ميلي للاعتقاد بأننا بصدد ثورة شعبية تلقائية وفي اتجاه فتح أفق أرحب لمستقبل أفضل، فان الاجابة الحاسمة على هذا السؤال ستظل معلقة لبعض الوقت، والى حين يتضح مدى النجاح في تحقيق التغيير الجذري الذي يؤسس لنظام سياسي واجتماعي جديد ولشيوع ثقافة أكثر استنارة وملاءمة لمصالح الأغلبية ومسايرة لمقتضيات العصر. ثاني هذه الأسئلة: هل انتهت الثورة ؟ - ما أشد الخلاف على اجابة هذا السؤال !! ... فمراحل التاريخ تتداخل بدرجة يستحيل معها تبين خطوط فاصلة، ولكل مرحلة مقدمات تسبق وتوابع تلحق. وقد نتفق على أن يوم 25 يناير 2011 كان بداية للحدث التاريخي الكبير، ولكن تحديد توقيت لنهاية واضحة سوف يكون أكثر مدعاة للإختلاف بغير شك. ولتوضيح الفكرة أشير إلى أن المؤرخين تختلف أراؤهم فيما يخص الوقت الذي يعتبرونه نهاية للثورة الفرنسية مثلًا، فبعضهم يرى أنها لم تنته بعد لأن آثارها وإلهامها مازالا يفعلان فعلهما بقوة وحضور، ويذهب البعض إلى أنها انتهت بتسلم نابليون السلطة بعد حوالي عشر سنوات من حادث الاستيلاء على الباستيل وذلك لأنهم يرون أن حاكمًا مطلقًا استبدل بآخر دون تغيير جذري للنظام، وهناك آخرون، غير هؤلاء وأولئك، اعتبروا أن توقيت النهاية كان حين هُزم نابليون وتم عزله لأنه في رأيهم كان آخر أبناء الثورة. فيما يخص ثورتنا، أظن أنه علينا أن نسعى لتحقيق الأهداف التي ضحى من أجلها الشعب بالشهداء والمصابين وبكثير من الأمن والاستقرار لسنوات، ولندع الحكم للتاريخ والمؤرخين ليقرروا في المستقبل متى انتهت الثورة وكيف انتهت. ثالث هذه الأسئلة: هل كان ما حدث ويحدث ضروريًا أو حتميًا ؟ - هذا سؤال يطرح في سياق طرح فكرة مال اليها مؤرخون ومفكرون محافظون، منهم على سبيل المثال جوستاڤ لوبون Gustave Le Bon وكرين برنتون Crane Brinton مفادها أن ما تحقق بالثورات - التي عانى الناس خلالها من أهوال العنف وخسائر الاضطرابات - كان من الممكن أن يتحقق باتباع أساليب الإصلاح السلمي المتدرج، ومن خلال النضال السياسي في اطاره الدستوري والقانوني. ويذهب معارضو وجهة النظر هذه، إلى أن الثورات لا تحدث إلا بتراكم، يتم عبر وقت طويل قبلها، يؤدي إلى انسداد السبل أمام أصحاب المصلحة في التغيير إلى الدرجة التي لا يجدون معها بديلًا عن التمرد على مرجعيات النظام القديم وهدمه على أمل البناء بعدها على أسس مشروعية جديدة. ويرى هؤلاء أن الثورة لهذا، لا يمكن تجنب حدوثها، مادامت التراكمات التي أدت اليها قد وصلت إلى الحد الذي أدى إلى اندلاعها. ان الثورة عندهم تشبه الزلزال أو البركان الذي تؤدي إليه حالة عدم اتزان تتراكم ضغوطها حتى يصبح تجنبها أمرًا تخيليًا. أختتم هنا اذن، هذه السلسلة من المقالات (عندنا ثورة !) بعد أن حاولت ببساطة وبقدر ما تسمح به المساحة، أن نتناول بعض الأفكار والمعلومات التي قد يجعل الالمام بها رؤيتنا أوضح وانفعالاتنا أهدأ وأفعالنا أكثر رشدًا، ويبقى علينا ألا نكف عن طرح الأسئلة المعلقة وعن محاولة اصطياد الإجابات المراوغة ما وسعتنا السبل.