محاولة لتوصيل النقاط

من الصعب تصديق أنه برغم كل المساعي التي بذلها الغرب لفهم ودراسة وتحليل الدين والهوية والقيم التي قامت عليها الثقافات العربية الإسلامية، وبرغم الحراك الاستشراقي الذي بدأ منذ القرن التاسع عشر والذي إلى الآن يخوض عميقا في تشريح هذه البقعة من الكرة الأرضية مازال عاجزا عن وضع تصور دقيق للأيديولوجية الإسلامية التي على أولويات أجندتها السعي لاستعادة دولة الخلافة والهيمنة على العالم شرقه وغربه.
ولهذا يبقى التحالف القائم بين الكيانات الإسلامية وحكومات اليسار الليبرالي في الدول الغربية أمرا محيرا ومربكا ويثير تساؤلات عدة عن أسباب هذا التحالف فهل هي الغطرسة الغربية التي تستهين بالشرق وتتعامل معه بسطحية بوصفه موضوعا متخلفا لا بوصفه كيانا متحركا قابلا للنمو والتمدد، والتي جعلته يعتقد أن باستطاعته السيطرة على تمددهم متى أراد ذلك، أم أنه التواطؤ؟ وهل يعقل أن تتواطأ الدول على نفسها فتفتح أبوابها على وسعها لاستقبال الملايين ممن يشكلون خطرا على استقرارها وأمنها القومي؟
الإجابة على هذا السؤال تستدعي إلقاء نظرة على التيار العولمي وتأثيره على السياسات والمسارات الاجتماعية والاقتصادية للدول والعولمة بتعريف مبسط هي معاملات وترابطات بين الدول قائمة على التكافل والتبادل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتكنولوجي والمعرفي إلى آخره. وكان التيار العولمي -بشكل تقديري- حتى سبعينيات القرن الماضي يرتكز حول إزالة العوائق أمام الالتحام الدولي على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بحيث يرتفع مستوى معيشة البشر بشكل عام وتتحقق معدلات عالية من النمو الاقتصادي ويحدث توازن في العلاقات الاقتصادية الخارجية بين الدول وبعضها، لكن تحولا جذريا أصاب النخب المتحكمة في ذلك المسار فأصبحت تخدم أجندة أباطرة السوق وأصحاب الثروات وترسخ للديكتاتورية وتدهس في طريقها الطبقات المتوسطة والدنيا.
وبعد أن كان تركيز النخب والقوى السياسية المركزية على كيفية الاستفادة من الاقتصاد العالمي وتوظيفه لتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية داخل دولهم، أصبح تركيزهم على ما يجب عليهم فعله للاندماج في الاقتصاد العالمي ونقل السياسات من إطارها القومي أو الوطني إلى اطار عالمي ولو استدعى ذلك تهميش -بل وتقويض- الأوضاع المحلية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى البيئية، وإعادة تشكيلها بما يتوافق مع ما تم إحرازه من تقدم في مجالات التكنولوجيا والصناعات الرقمية والذكاء الاصطناعي وذلك فيما أسموه "إعادة ضبط العالم".
عملية التقويض وإعادة الضبط هذه، والمتأثرة بفكر الماركسية الثقافية، تقتضي تفسخ الأعمدة التي تقوم عليها الحضارة الغربية الحالية من مؤسسات تعليمية وقضائية ودينية وأسرية إلى آخره، وهذا يستلزم استخدام آليات فوضوية مثل التي نراها وتثير تعجبنا دون أن نفهم الدافع ورائها مثل الجلب غير المنضبط للاجئين والمهاجرين، التحالفات المريبة بين الحكومات والمنظمات الإسلامية، القوانين ومشروعات القوانين الخاصة بالتحولات الجندرية للأطفال والعقوبات التي تفرض على الآباء في حال اعتراضهم على تلقي أبنائهم للعلاجات الهرمونية، أدلجة مناهج التعليم وحشو أدمغة الطلاب بأفكار النيوليبرالية واليسارية المعاصرة المشجعة على الفوضى والعنف، تخصيص ميزانيات تصل إلى بلايين الدولارات للميديا والمؤسسات الإعلامية التابعة للحكومة وتسخيرها لترديد السردية الرسمية، تخفيض ميزانية الشرطة وأقسام البوليس ودعم المظاهرات العنفية مثل برو بالستين وبلاك لايفز ماتر وغيرها.
هذا التحول الجذري في المسار العولمي فيما أسماه المتخصصون بالعولمة غير المدروسة تسبب في إحداث انقسام عميق داخل المجتمعات، التي كلما ازداد انخراطها في الاقتصاد العالمي ازداد تفككها الداخلي ونما شعور بالانفصال بين عامة الناس وبين النخب السياسية هذا الانفصال يرسم صورة قاتمة وفوضوية لمستقبل تزداد فيه البطالة وتتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وترتفع فيه نسبة العنف وتتضاءل الحريات وأخشى ما أخشاه أن يصيب هذا التداعي الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا باعتبارها دولة النواة وأقوى دولة في العالم من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية في الوقت الراهن.