يحيي عواره يكتب: عن الهمجية الأنيقة مستريحة الضمير

بقلم: يحيي عواره
حكى محاربٌ ياباني قديم ممن خدموا بالصين أثناء الاحتلال الياباني لها، في مقابلة بحثية معه، أنه قتل طفلًا صينيًا رضيعًا، ببساطة وبلا أي تردد، بأن ألقاه حيًا في قِدْر به ماءٌ يغلِي، وذلك حينما أزعجه بكاؤه وهو يمارس الاعتداء جنسيًا على أمه قبل أن يقتلها هي الأخرى. قال أيضًا: كنا ندعو الصينيين "شانكورو"… أي "أدنى من البشر".
الرومان، في قمة حضارتهم القديمة، كانوا يستمتعون بحضور عروض المصارعة حتى الموت بين الأرقاء أو ضد حيوان كاسر وهم يتسامرون ويتناولون المشروبات المنعشة.
أغلب فلاسفة اليونان القديمة من ذوي القامات الفكرية العالية، أفلاطون وأرسطو مثلًا، كان يقبل بواقع الرق ويعتبره أمرًا مبررًا ويرى في العبيد مخلوقاتٍ غيرَ جديرة بشرف المواطنة.
الألمان… شعبٌ راقٍ، عرف بالدأب والالتزام، وساهم في الحضارة الإنسانية بمن لا حصر لهم من الأفذاذ في مجالات العلم والأدب والفلسفة والموسيقى… هذا الشعب قَبل بالنازية، وتحمس لها ولممارستها لأبشع المجازر والتعذيب والإبادة الجماعية المنظمة.
والأمثلة من هذا النوع كثيرة وممتدة على مدى التاريخ ومازالت تحيط بنا -وإن بدرجات متفاوتة- من كل جانب. وقد أصادف أحيانًا سيدةً حساسة ومثقفة أو صديقًا لطيفًا ودمث الخلق لا تتأذى مشاعرهم من انتهاك الحقوق الإنسانية لخصومهم السياسيين أو المختلفين عنهم دينيًا، بل ويتورطون أحيانًا في الدعوة إلى فرمهم أو دهسهم بالدبابات!
ما هي الخدعة التي تجوز على أمثال من أشرت إليهم وتؤدي إلى تسلل القبول بالهمجية المقيتة إلى داخل نفوسهم بسلاسة وربما بقدر من الزهو والرضا عن الذات؟ كيف يحدث هذا؟… أين هي الثغرة الخبيثة أو المنزلق اللعين؟… كيف للإنسان، ذلك الكائن المميز بالذكاء ورهافة الإحساس والقدرة على التعاون… كيف يتورط في التغاضي عن ارتكاب جرائم همجية مثل الإبادة والتعذيب والاضطهاد بحق أخيه الإنسان؟ إنها الخطيئة الجذابة… "أُمّ الخطايا"… خطيئة التجريد من الإنسانية (dehumanization)؛ أي النظر إلى الآخر المختلف على أنه أدنى عقليًا وشعوريًا.
ولا شك أنه مما يرضِي الشعور الجمعي للجماعات أن يعتقد أفرادها بتميزهم؛ فغجر شرق أوروبا، مثلًا، يسمون أنفسهم "الروم"، وشعب شمال اليابان يسمون أنفسهم "آينو" وهي كلمات تعني الإنسان، وكأن من ليسوا منهم ليسوا ببشر، ونحن نعرف أن هناك من يعتبرون أنفسهم "شعبًا مختارًا" أو "خير أمة" لمجرد أنهم ينتمون لأديان معينة أو من سلالة مميزة وهذا يقود للأسف إلى اعتبار الآخرين أحطَ قدرًا أو مستباحين بدرجةٍ ما، فهذا الجندي الياباني الذي ارتكب الجريمة الفظيعة المشار إليها في بداية المقال يقول: "كنا ندعو الصينيين "شانكورو"… لم نكن نعتبرهم بشرًا… لو أنني كنت أفكر بهم كبشر ما كنت أستطيع فعلها"، والرومان واليونانيون القدماء كانوا يعتقدون أن إنسانية العبيد ناقصة وأن قدراتهم العقلية والشعورية أدنى من تلك التي يستمتع بها الإنسان الحر، النازيون كانوا يصفون ضحاياهم ب"الجرذان"، فلا ضير من اللهو باصطيادهم وإجراء التجارب القاسية عليهم ثم قتلهم جماعيًا، والذين أبادوا قبيلة التوتسي في رواندا كانوا يصفون أفرادها ب "الصراصير"، فلا غرابة إذن في إبادتهم جماعيًا.
كان العنف -وسيظل لا أدري إلى متى- وسيلة تلجئنا الظروف أحيانًا لاستخدامها لحسم الصراع على المصالح و الطموحات، ولكن يجب أن ندرك أن هذا العنف لا يكون مُبَرَرًا إلا لضرورة، وأن خصومَنا أو أعداءنا أو منافسينا ما هم إلا إخوة في الإنسانية… هذا الإدراك واستحضاره الدائم يظل هو الصمام الذي يضمن توقي الشطط والتدني الخبيث.
الإنسان ذو اللون أو العرق أو الدين أو الطائفة المختلفة… الإنسان ذو الجنس الآخر أو ذو الإعاقة أو الخصم السياسي… كل إنسان… هو للإنسان الآخر، ندٌ وشريكٌ في الإنسانية، يجوز صراعُه ويجوزُ حتى قتاله ولكن على قاعدةٍ نبيلة واضحة لا لبسَ فيها… هي احترامُ إنسانيتي بالالتزام باحترام إنسانية كل إنسان.
يحيى عواره - تورنتو