يحيي عواره يكتب: انظر أمامك في أمل

بقلم: يحيي عواره
يبدو أن الحنين إلى الماضي باعتباره "زمنًا جميلًا" أو "عصرًا ذهبيًا" كان موجودًا على مر العصور؛ فعلى سبيل المثال، نجد مخطوطة فرعونية يتباكى فيها حكيمٌ مسن على عصر مضى كان الصغارُ فيه يوقرون الكبار وكانت الحياةُ أحلى وأكثرَ رخاءً، ونجد في الأساطير اليونانية ما يحكي عن زمنٍ سابق اتسم بالسلامِ والتناغم وكان البشرُ يعيشون فيه كآلهةٍ مخلدة، كما نجد في تراثنا الآن ما يشير إلى وجود للإنسان الأول في جنة نعيم قبل سقوطِه منها إلى أرضِ المكابدة والعناء.
فما هو سر قوة وشيوع هذا الحنين إلى الماضي ؟ وهل هناك ما يدعمه من الحقائق التاريخية أو الإحصائيات الموثوقة أم انه مجرد عاطفة مشوشة أو حاجة نفسية غامضة ؟ وما هي أسباب قدرته على الاستمرار عبر الأزمنة والثقافات المتنوعة ؟ ثم ماهي الآثار التي يمكن أن تترتب على الاستسلام لإغرائه ؟
الحاضر ليس جنةً بالطبع، ونقدُ ظروفِه والطموحُ لتجاوزِها هو موقفٌ أخلاقيٌ ومسؤول بغير شك، ولكن علينا، في نفسِ الوقت، أن نتذكر بفخرٍ وثقة أن ما حققه الإنسان، منذ وُجِد، يشكِّل تراكمًا ثمينًا من الإنجازات في مجالات العلم والتقنية، وأن معدل هذا التراكم يتسارع بدرجة مذهلة، وإن كان التقدم في مجالات التعاطف الإنساني لا يساير التقدم المادي خطوة بخطوة.
فباستعراض بعضِ الإحصائيات المختصرة سنلاحظ، مثلًا، أن متوسط العمر في بداية القرن العشرين كان حوالي 45 عامًا، وقد أصبح الآن حوالي 70 عامًا، وفي ستينات القرن الماضي كان حوالي 70% من الناس يعانون من الفقر، هذه النسبة أصبحت الآن حوالي 30%، ونجد أن سرعة المعالجة في مجال تكنولوچيا المعلومات تتضاعف كل 18 شهرًا وتنخفض تكلفتها إلى النصف، أما فيما يخص مستوى النظافة الشخصية والعامة والوقاية من الأمراض، مثلًا، فسنجد أن نسبة كبيرة من عامة الناس أصبحوا الآن يستمتعون بما لم يكن متاحًا حتى للملوك والأمراء قديمًا. أما في مجالات الرقي الأخلاقي والإنساني فالإحصائيات تشير إلى التناقص المضطرد لأعداد ضحايا الحروب والجرائم والحوادث، وبعد أن كانت النصوص الدينية فقط هي المرجعية الأخلاقية وكانت علاقات العبودية والتمييز والاستغلال من سمات المجتمعات عمومًا توصل البشر بالتدريج إلى وضع مواثيق وآليات للتخلص منها بالتعاقد المدني الملزم بدرجات متفاوتة من النجاح.
أما عن الأسباب المحتملة لظاهرة الحنين إلى الماضي "الجميل"؛ فيبدو أن منها إسقاط الأفراد لتجاربهم الشخصية على انطباعاتهم عن الماضي بشكل عام، فمراحل الطفولة والشباب المتسمة بالانطلاق والعاطفة والطاقة تمثل لكلٍ منا زمنًا شخصيًا جميلًا، وحين نتذكرها سيسعدنا أن ننتقي ونسترجع أكثرها متعة وبهاءً، وهناك أيضًا ذلك الشعور المريح بالفخر بأسلافنا والذي يغرينا بأن نسبغ عليهم صفات العظمة والرقي بتأثير ما درجنا عليه في الطفولة من المبالغة في تقدير حكمة ونزاهة الوالدين والبالغين، يضاف إلى كل هذا أن منغصات الحاضر تلح علينا أحيانًا لدرجة تشغلنا عن الامتنان للمزايا التي تعودنا عليها. وقد تنشأ عند البعض أيضًا انطباعات تخيلية عن الماضي بتأثير مشاهدة الأفلام والمسلسلات التليڤزيونية التاريخية التي تصور حياة أفراد مفرطي الأناقة يعيشون في القصور ويفوتهم أن هذا ربما يكون تصويرًا غير دقيق لحياة قلة من طبقات محدودة، بالإضافة إلى الانطباع الذي قد تتركه الأعمال الفنية والأدبية القديمة والتي ربما يفوت بعض المطلعين عليها أنها المنتخب من أعمال البارزين وليس كل ما كان موجودًا في أزمنتهم.
ومن الملاحظ أن هذا الحنين المبالغ فيه للماضي يشيع في المجتمعات السلفية الثقافة وفي فترات اشتداد المعاناة أو اضمحلال الأمل، وفضلًا عن مجافاته الحقيقة، فان هذا النوع من التوهم يؤدي إلى التورط في المحاولات الفاشلة لمعالجة تحديات المستقبل بمناهج السلف "السعيد" أو الظن بأن البشرية تنحدر لتواجه كارثة نهائية وشاملة وبكل ما قد يصحب هذا الظن من يأس وعدمية
لنحتفي، إذن، بذكريات ماضينا الطيبة ولنطري، بتعقل، أسلافنا، ولنتجنب، ما وسعنا، التورط في أوهام مجافية للإنصاف أو مثبطة للهمة ومبددة للأمل.