”سانت كاترين”... رهبان في مواجهة السيادة

أصدرت محكمة استئناف الإسماعيلية، حكمًا بطرد مطران دير سانت كاترين، التابع للطائفة اليونانية الأرثوذكسية، من 14 قطعة أرض في جنوب سيناء، من إجمالي 71 قطعة أرض، يتنازع عليها المطران مع الحكومة المصرية.
اعتبرت الحكومة أن المطران، بصفته رئيس دير سانت كاترين، استولى على أراضٍ دون سند قانوني، وأقام عليها مبانِ دون ترخيص رسمي، وبناء عليه، جاء الحكم بالإبقاء على 57 قطعة أرض، تتضمن أراضي الدير وأخرى خارج أسواره، كحق انتفاع، وفقًا لنص الحكم .
أثار الحكم عاصفة من الاعتراضات والإدانات اليونانية لمصر. اعتبرت الكنائس الأرثوذكسية اليونانية في أثينا والقدس والقسطنطينية، أن القرار «كارثة روحية» و«نكسة تاريخية». من جانبها، ردت وزارة الخارجية المصرية ورئاسة الجمهورية سريعًا لتؤكِدا أن الحكم إنجاز تاريخي، باعتباره يضع، للمرة الأولى، توصيفًا قانونيًا لوضع الدير.
جاء الحكم تتويجًا لصراع قضائي امتد لأكثر من عقد. وبحسب مصادر على صلة بالصراع القضائي كانت التوقعات تميل إلى أن تُحسم نتيجة النزاع لصالح الدير، خاصة بعد زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أثينا،، حيث قال في مؤتمر صحفي رسمي: «أؤكد التزام الدولة المصرية بالتعاقد بين الدير والدولة، وهو تعاقد أبدي لن يُمس، خاصة وأن الدير يحتضن رفات قديسة عظيمة، وأشدد أنني قد حرصت على توضيح ذلك الأمر بنفسي وأذكره بشكل مباشر لدحض الأقاويل المغرضة».
إلى جانب المسار القضائي، بدأت مفاوضات، في 2024، بين الدير ومحافظة جنوب سيناء، برعاية وزارة الخارجية اليونانية، وبمشاركة مسؤولين من وزارتي الخارجية والثقافة في أثينا، ومحافظ جنوب سيناء من الجانب المصري، وفقًا لتصريحات المستشار القانوني للدير، والمتحدّث الرسمي باسم هيئته القانونيّة، خريستوس كومبيليريس.
انتهت هذه المحادثات إلى إعداد مُسوّدة اتفاق تعترف بملكية دير سانت كاترين لكل قطع الأراضي الـ71 محل النزاع، مع تأكيد استقلاليته في إدارة شؤونه الداخلية، والتنسيق مع المجلس الأعلى للآثار، وأشارت إليه صحف يونانية، وبيانات رسمية أخرى. وكان من المقرر توقيع الاتفاق مطلع 2025، لكن تم تأجيل التوقيع.
وفي المقابل، جاء الحكم القضائي، واتخذ اتجاهًا مغايرًا.
وبينما ترى الإدارة المصرية أن الحكم القضائي خطوة قانونية لتنظيم وضعٍ غيرِ مقنن استمرّ لعقود، رأت فيه الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية وممثلو بطريركياتها في العالم تهديدًا مباشرًا لوجود أقدم دير مسيحي مأهول في العالم، خطوة نحو تجريده من ممتلكاته التاريخية.
الخلاف الحالي بين الإدارة المصرية ودير سانت كاترين، كما يكشفه الحكم القضائي الأخير وسياقه، يعكس الطابع الاستثنائي لهذا المكان، دير لم يكن فقط موقعًا للعبادة، بل فضاءً حيًا لحياة روحية امتدت لعقود، حيث كرّس الرهبان حياتهم له.
هذه الاستثنائية حاولت الدولة المصرية نزعها عبر أداة الملكية، في لحظة تتسارع فيها مشروعات التطوير العمراني في سانت كاترين.
يقع دير سانت كاترين في وادٍ عند سفح جبل موسى، في شبه جزيرة سيناء، ضمن محمية طبيعية ومنطقة تراث عالمي. بناه الإمبراطور جوستنيان، في القرن الـسادس، وسمي في القرن الـ11 على اسم القديسة السكندرية كاترين، التي آمنت بالمسيحية في القرن الرابع، ووُضع رفاتها عند هيكل الدير.
ويضم داخله كنائس وأديرة فرعية ومكتبة تحوي آلاف المخطوطات النادرة، ويقيم فيه نحو 20 راهبًا، معظمهم من جنسيات أجنبية، وفقًا للمستشار القانوني للدير، والمتحدّث الرسمي باسم هيئته القانونيّة خريستوس كومبيليريس.
اعترفت الدولة المصرية بالدير كأثر في القرار رقم 85 لسنة 1993، واحتفظت وزارة الآثار بحق الإشراف على مبانيه، وفي 2002 أُدرج على قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
في عام 2012، اشتعل فتيل الأزمة، عندما زار اللواء أحمد رجائي، القائد السابق في الجيش المصري، دير سانت كاترين. ورغم تباين الروايات حول تفاصيل الحادثة، تتفق المصادر على أن الزيارة شهدت توترًا بين رجائي والرهبان.
المؤكد أن رجائي كان أول من بادر باتخاذ إجراء قانوني ضد الدير، حيث تقدم بدعوى يتهم فيها الرهبان الأجانب بالاستيلاء على أراضي الدولة وتهديد الأمن القومي، مدعيًا أن الدير يسيطر على نحو 20% من أراضي جنوب سيناء، وطالب بطردهم. على مدار سنوات، واصل رجائي توجيه اتهامات علنية عبر تصريحات، زاعمًا وجود ارتباط بين الرهبان والماسونية، ووجود مؤامرة «أمريكية صهيونية» تهدف إلى منع مصر من استغلال الثروات المعدنية في سيناء.
المطالبات العلنية لطرد الرهبان خلال هذه الفترة لم تقتصر على رجائي، إذ طالب آخرون من بينهم السياسي والدبلوماسي السابق مصطفى الفقي، بضم الدير إلى الكنيسة المصرية.
تُوفي رجائي في 2021، لكن قبل وفاته ومع تصاعد الخطاب المعادي للدير في المجال العام، تحوّل النزاع إلى مسار قانوني رسمي تبنّته مؤسسات الدولة. في عام 2015، رفعت محافظة جنوب سيناء دعوى قضائية أمام محكمة شرم الشيخ ضد الأنبا دميانوس، مطران ورئيس دير سانت كاترين، وفقًا لنص حكم المحكمة .
وفي عام 2016، تدخل كل من وزير الآثار ورئيس جهاز شؤون البيئة كطرفين في الدعوى إلى جانب المحافظة، وطلبا رفع تعويض حق الانتفاع من خمسة إلى عشرة ملايين جنيه، مع توسيع نطاق النزاع ليشمل 42 قطعة أرض إضافية، ليصل إجمالي القطع المتنازع عليها إلى 71.
وفي 30 مايو 2022، أصدرت محكمة جنوب سيناء الابتدائية حكمًا بطرد مطران دير سانت كاترين من 29 قطعة أرض، ورُفضت الدعوى في باقي القطع المتنازع عليها. واعتراضًا على الحكم، تقدّم الطرفان كلٌّ في اتجاهه ولأسبابه، باستئناف أمام محكمة استئناف الإسماعيلية.
وبعد ثلاث سنوات، أصدرت محكمة الاستئناف، حكمها النهائي بطرد المطران من 14 قطعة أرض، واعتبار المباني المقامة عليها بمثابة تعويض عيني للدولة عن فترة الانتفاع، فيما أبقت 57 قطعة أرض في حيازة الدير، لكنها لم تعترف بها كملكية، بل كحق انتفاع.
رأت المحكمة، في نص حكمها، أن «استمرار الدير في الانتفاع ببعض القطع لا يمنحه صفة المالك، وإنما يعكس وضعًا دينيًا خاصًا ومشروطًا، مما يبرر سحب الأراضي التي لا تندرج تحت الاستخدام الديني المباشر». استندت المحكمة في حكمها جزئيًا إلى إفادة المطران دميانوس، رئيس الدير، الذي أقر بأن حيازته للأراضي تتم بصفته الكنسية، وباعتباره حارسًا على الأديرة والمباني والأراضي الدينية، مؤكدًا في شهادته أنه «يعلم تمامًا أن تملك هذه الأراضي غير جائز قانونًا».
من جهتها، ترى الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، في تصريحاتها المختلفة، أن الدير يملك الأرض بملكية تاريخية، استنادًا إلى وجوده المتواصل في الموقع منذ أكثر من 1400 عام، وما يرافق ذلك من رمزية دينية وثقافية، تجعل الدير أحد أقدم المؤسسات المسيحية المأهولة في العالم.
من جهة أخرى، يُثير حكم الطرد مشكلة عملية واقتصادية تتجاوز البُعد الرمزي، إذ تشمل معظم الأراضي المنزوعة حدائق تاريخية، وكنائس فرعية، ومصادر مياه، بالإضافة إلى مزارع للزيتون ومحاصيل أخرى يعتمد عليها الدير لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتوفير موارد مالية تُسهم في تغطية نفقاته.