يحيي عواره يكتب: عندنا ثورة - 1

على طريقتنا نحن المصريين حين نقول بلغتنا الدارجة البسيطة: "عندنا فرح !" .. أو "عندنا مأتم !" .. أو "عندنا ضيوف !" أقول لكم أعزائي، و انتم طبعًا تعرفون: "عندنا ثورة !" .. و أقول أيضًا: "ربنا يتمم على مصر ثورتها بالخير !".
كنت قد وعدت في نهاية مقالي السابق "نورني يا دكتور !" أن أحاول في سلسلة من المقالات، أن نتعرف معًا على طبيعة و تعريف و مراحل الثورات، و أن نستعرض معًا مسارات و مآلات بعض الثورات التاريخية الكبرى.
الهدف من هذه المحاولة هو أن نصبح أكثر قدرة على تفهم أحداث و تطورات تلك "الثورة التي عندنا"، و أن نكتسب بذلك حصانة أقوى ضد التعرض لمخاطر الإنفعالات المفرطة، تلك الإنفعالات التي من شأنها أن تشكل عبئًا يفاقم من حالة المعاناة النفسية و المعيشية التي نتجت عن ظروف غياب الحد المريح من الإستقرار و الأمان.
سنبدأ، إذن، في هذا المقال و الذي يليه بإستعراض أبرز أسباب و خصائص و أطوار الثورات ثم نتبع هذين المقالين بإستعراض ما قد يفيد من قراءة سريعة لبعض الثورات الكبرى.
الثورة؛ التعريف، الأسباب و التوقيت:
-------------------------------------
للأسف، ليس هناك تعريف علمي واضح و متفق عليه للثورة، فلطالما أستخدمت الكلمة بطريقة دارجة في لغة الحياة اليومية على نحو مطاط، و لطالما تنوعَ المقصودُ بها في الدراسات التاريخية و السياسية و الإجتماعية، و يرجع هذا إلى أن الثورة ظاهرة إنسانية تتحدد بكثير من معطيات بيئتها و محيطها و سياقها التاريخي.
و على الرغم من هذا، يمكننا أن نقول بأنها فعل شعبي عفوي غير منظم، يحدث عندما يصبح النظام القائم ضعيفًا و غير مقبول و مهتز الشرعية و لا يفي بطموحات فئات كبيرة من المجتمع.
و على غير ما قد يظن الكثيرون، ليس من الضروري أو المعتاد أن تكون للثورة في بدايتها قيادة مُتفقٌ عليها من الثوار لتقوم برسم الخطط و تحديد الأهداف. و هذا مما تختلف فيه الثورات عن حالات الإنقلاب أو الحركات الإصلاحية المحدودة.
و لأن ما يحدد توقيت إندلاع شرارة الثورة الأولى هو، في الغالب، التداعي الغير مخطط لعوامل عديدة و متنوعة، يصبح التنبؤ بها أمرًا غير ميسور .
و على الرغم من عدم الإتفاق المشار إليه، يمكننا القول بأن من أكثر تعريفات الثورة شيوعًا، هو أنها طفرة في التطور التاريخي، تنبع ضرورتها من عدم ملاءمة النظام القائم لفئات إجتماعية واسعة و ضرورة استبداله، رغمًا عنه وعن شرعيته المستقرة، بنظام جديد، أكثر وفاءً بمصالح هذه الفئات.
و قد ذهب الماركسيون إلى أن الثورة تحدث عندما تصبح المنفذ الوحيد للتقدم إلى آفاق أكثر إشباعًا لحاجات أغلب المواطنين، و عندما يتطور نظام الإنتاج إلى نظام جديد، و بتراكم تغييرات تؤدي لنشوء ضغوط سياسية قوية يعجزالنظام القائم عن تحملها.
يقول كرين برينتون Crane Brinton في كتابه المهم (تشريح الثورة): إن الثورة هي عملية إنتقال ديناميكية من بنيان إجتماعي إلى بنيان آخر، بشكل يتجاوز المشروعية القانونية القائمة.
و تذكر موسوعة علم الإجتماع أن الثورة هي إحداث تغييرات جذرية في البنية المؤسسية للمجتمع، للعمل على تبديل نمط الحياة الإجتماعية للتوافق مع مبادئ و قيم جديدة.
الثورة إذن، عملية تستغرق وقتًا، و تحدث تغييرات عميقة، و من المألوف فيها بروز التوترات و الصراعات، و تستخدم فيها أطراف الصراع، أساليب إستهواء الجماهير أو محاولة توجيهها بمختلف الوسائل. و ليس من المستغرب في الثورات، بروز العنف أحيانًا، و إن لم يكن هذا شرطًا لازمًا بالتعريف.
نلتقي في المقال القادم لإستكمال ما بدأناه هنا، و إلى هذا الحين نأمل أن تكون "الثورة التي عندنا" قد تقدمت بمصر في اتجاه المستقبل الأفضل.
يحيى عواره - تورنتو