تصدع الحزب الليبرالي في الكيبيك ... انتخابات العام القادم في الإقليم
تشهد الساحة السياسية في إقليم الكيبيك، ثاني أكبر الأقاليم الكندية العشرة، بعد أونتاريو، اهتزازا داخليا عميقا في صفوف الحزب الليبرالي، حيث تتوالى الأحداث التي تكشف عن تصدعات في الانضباط والوحدة، وتضع القيادة أمام امتحان عسير الأزمة، التي يواجهها زعيم الحزب بابلو رودريجيز، ليست وليدة اللحظة بل هي حصيلة تراكمات ممتدة عبر سنوات من الانقسامات والتوترات، التي أضعفت صورة الحزب وأفقدته تماسكه التقليدي. وقد جاءت سلسلة من الوقائع الأخيرة، لتعجل بانفجار الوضع بدءا من تعليق عمل الزعيمة البرلمانية وإقالة مديرة مكتبها، وصولا إلى جدل الرسائل النصية، التي تحدثت عن مبالغ مالية مقابل أصوات في سباق القيادة، وما تبعها من تهديدات قانونية وضغوط داخلية متزايدة
لقد كان الحزب الليبرالي في الكيبيك في الماضي نموذجا للانضباط السياسي، حيث لم تكن الخلافات الداخلية تطفو إلى السطح. لكن هذا الانضباط بدأ يتآكل منذ هزيمة حكومة فيليب كويار 2018. ومع تراجع السؤال التقليدي حول السيادة أو الفيدرالية وجد الليبراليون أنفسهم أمام فراغ في الهوية السياسية واضطروا إلى إعادة النظر في مواقفهم من قضايا اللغة والعلمنة والهجرة ودور المناطق وخطط التنمية الاقتصادية. وهنا برز الانقسام بين تيار تقليدي متمسك بالماضي وتيار إصلاحي يسعى إلى إعادة تشكيل صورة الحزب بل إلى الانعطاف نحو اليسار وهو ما عمق الشرخ الداخلي.
جذور الانقسام والشرخ التاريخي
غير أن جذور الانقسام أقدم من ذلك فقد ظهر أول شرخ بعد هزيمة جان شاريه عام 2012 حين انقسم الحزب بين مؤيدين ومعارضين له. ثم جاء الشرخ الثاني بعد خسارة فيليب كويار والبحث المضطرب عن هوية جديدة. والشرخ الثالث مع دخول وجوه اتحادية من أوتاوا إلى الحزب مع وصول رودريجيز وفريقه، وهو ما أثار غضب بعض النشطاء الذين اعتبروا أن أسلوب العمل الاتحادي بعيد عن خصوصية السياسة الإقليمية في الكيبيك، وأن التواصل السياسي الفيدرالي يفتقر إلى الفعالية. وقد تأخر الحزب عامين ونصف قبل انتخاب زعيم جديد، مما أتاح تشققات إضافية داخل الجناح البرلماني، وخلق مجموعات متنافسة وفقدان السلطة الداخلية، وبذلك تكونت موجة عميقة من الانقسام تهدد اليوم وحدة الحزب.
الأزمة تتصاعد بين رزقي والخوري
في خضم هذه الأجواء، جاءت محادثة بين النائبة مروى رزقي والنائب الفيدرالي في حزب الأحرار فيصل الخوري لتثير اهتمام مدير الانتخابات في الكيبيك، بسبب احتمال ارتباطها بحملة رودريجيز للقيادة. وقد حدث اللقاء خلال افتتاح خط جديد لشبكة القطارات في 14 نوفمبر 2025، وهو اليوم الذي بدأ فيه تصاعد الأزمة داخل الحزب، ورغم اعتراف الخوري بلقائه رزقي، فإنه نفى مناقشة أي موضوع يتعلق بالحملة. غير أن معلومات لاحقة أكدت أنه كان يحمل شهادة تخوله جمع التبرعات، وشارك فعليا في ذلك. وفي أعقاب اللقاء، دخلت رزقي في خلاف حاد مع مديرة مكتبها جينيفييف هينس المقربة من رودريجيز حول الفصل بين النفقات العامة والحزبية، وبعد ثلاثة أيام أقدمت رزقي على طرد هينس دون إخطار رودريجيز، مما دفعه لتعليق عضويتها في الكتلة البرلمانية.
رسائل نصية تزيد الوضع تعقيدا
ثم جاءت الرسائل النصية المسربة لتزيد الوضع تعقيدا، إذ تحدثت عن مبالغ مالية محتملة مقابل أصوات في سباق القيادة، وهي رسائل يحقق فيها مدير الانتخابات، وتضمنت الإشارة إلى اسم الخوري كوسيط محتمل لجمع الأموال، بينما ينفي الحزب صحتها. مؤكدا احتمال تزويرها غير أن خلفية الخوري في الحملات الانتخابية السابقة وعلاقاته الواسعة داخل الجاليات وخبرته في قطاع البناء والاستشارات الدولية، جعلت اسمه محور جدل واسع. وتشكل هذه السلسلة من اللقاءات والاتهامات محور الأزمة الحالية، التي تهز الحزب وتضع قيادة رودريجيز تحت ضغط متزايد.
ضغوط داخلية وانتقادات سياسية
وقد تعرضت طريقة تعامل رودريجيز مع الأزمة لانتقادات واسعة من مختلف الأحزاب في الجمعية الوطنية، حيث طالبوه بتقديم تفسيرات واضحة حول الاتهامات المتعلقة بحملته. معتبرين أن القضية تمس صورة الطبقة السياسية كلها، فبدأ حزب التضامن من أجل الكيبيك "الكاك" الانتقادات. مؤكدا أن المسؤولية تقع على عاتق رودريجيز، وليس رزقي. ثم انضم الحزب الكيبيكي، معبرا عن قلقه من الغموض، وتعامل رودريجيز بخفة مع ما يقال عن الرسائل النصية. كما علق وزير العدل سيمون جولا باريت مبديا وجود مشكلات أخلاقية في الحزب. فيما اضطر رودريجيز للرد، مؤكدا أنه لا يرى شيئا جديدا، وأنه لا يملك أسبابا للاعتقاد بأن الخوري جمع الأموال بطريقة غير قانونية. مشيرا إلى الدعم الذي تلقاه خلال مسيرته الوزارية.
وامتد الجدل إلى أوتاوا، حيث دافع الليبراليون الفيدراليون عن الخوري. مؤكدين نزاهته الطويلة. فيما أوضح رودريجيز أن الخوري هو النائب الفيدرالي الوحيد الذي شارك في جمع التبرعات خلال حملته للقيادة ورئاسة الحزب الليبرالي في الكيبيك.
تحقيق مستقل لحماية نزاهة الحزب
وفي محاولة لاحتواء الأزمة أعلن الحزب أن تقرير القاضي المكلف بالتحقيق في ادعاءات دفع أموال للتأثير على نتائج سباق رئاسة الحزب، سيقدم قبل نهاية يناير 2026، وقد تم تفويض القاضي المتقاعد جاك فورنيي لإجراء تحقيق مستقل، لتحديد ما إذا كانت هناك مدفوعات للتأثير على التصويت، ومعرفة الأشخاص المتورطين، والمبالغ وعدد الأصوات. وأكد الحزب أنه سينشر التقرير كاملا، وأن نزاهة الحزب غير قابلة للتفاوض. كما تتحقق وحدة مكافحة الفساد من معلومات تتعلق بمخالفات مزعومة داخل الحزب.
وفي اليوم نفسه، أكد رودريجيز أن الخوري جمع تبرعات لحملة قيادة الحزب الليبرالي، وأن الأزمة بدأت منذ إقالة رزقي لمديرة مكتب الحزب، دون علمه. وتقرير صحفي كشف رسائل نصية توحي بأن أعضاء يدعمون رودريجيز، ربما حصلوا على مبالغ مالية مقابل دعمهم، مما زاد الضغوط الداخلية على قيادة الحزب.
تصريحات رودريجيز والخوري وردود الفعل
يعتقد رودريجيز أن رزقي، هي التي طلبت تدخل وحدة مكافحة الفساد. وأكد أن الحزب يتعاون مع المحققين، وأن أي شخص يثبت تورطه سيدفع الثمن. وأضاف أن مهمة قيادته حماية مؤسسة ساهمت في بناء الكيبيك الحديثة. أما الخوري فقد أوضح أن النقاش مع رزقي كان حول تشجيع ابنته على المشاركة في السياسة، وأنه ساعد رودريجيز في جمع التبرعات فقط، دون أي دور في جمع بطاقات التصويت. فيما تواصل هينس متابعة دعوى ضد رزقي بسبب فصلها التعسفي من منصب مديرة مكتب الحزب في 17 نوفمبر 2025.
انعكاسات الأزمة على الحزب والمرحلة المقبلة
إن الأزمة الليبرالية الراهنة ليست مجرد خلاف عابر، بل هي انعكاس لصراعات عميقة بين التيار التقليدي والإصلاحي. وتكشف عن ضعف الانضباط الداخلي، بعد سنوات من إدارة الحزب دون قيادة مستقرة. وتشكل رسائل التبرعات والجدل حول قيادة الحزب اختبارا لقدرة رودريجيز على حماية وحدة الحزب، والتوازن بين الضغوط الداخلية والخارجية. وفي ظل هذه الأجواء، يراقب الرأي العام والسياسيون كافة التحركات بانتظار نتائج التحقيق المستقل، الذي سيحدد ملامح المرحلة المقبلة، ويكشف إن كان الحزب قادرا على تجاوز أزمته أم أنه سيظل أسير انقساماته الداخلية؟
بهذا المشهد تبدو الساحة الليبرالية في الكيبيك أمام مفترق طرق حاسم. فإما أن ينجح رودريجيز في إعادة بناء الثقة وترميم الانضباط، وإما أن تتسع الهوة بين تيارات الحزب، بما يهدد مستقبله السياسي في مرحلة تتطلب وضوحا واستقرارا أكثر من أي وقت مضى. وفي كل الأحوال، فإن هذه الأزمة ستظل علامة فارقة في تاريخ الحزب الليبرالي في الكيبيك، إذ تكشف عن عمق التحديات، التي تواجهه وعن الحاجة الملحة إلى مراجعة شاملة لمساره السياسي وإعادة تعريف هويته بما يتناسب مع متغيرات الواقع الكيبيكي.
الانتخابات الإقليمية العام القادم .. من الفائز؟
تواجه الساحة السياسية في الكيبيك تحديات كبيرة مع اقتراب الانتخابات الإقليمية العام القادم، حيث تعكس الأزمة الحالية في الحزب الليبرالي، ضعف الانضباط الداخلي وغياب الوحدة بين التيارات التقليدية والإصلاحية، وهو ما قد يؤثر سلبا على صورته أمام الناخبين، ويمنح خصومه فرصة لتعزيز موقعهم في البرلمان الكيبيكي "الجمعية الوطنية".
ويبدو أن حزب التضامن من أجل الكيبيك "الكاك" يبدو مستفيدا من تصدعات الحزب الليبرالي، إذ يمكنه تقديم نفسه كخيار مستقر وموحد قادر على الاستجابة لتطلعات الناخبين، الذين فقدوا الثقة في القيادة الحالية للحزب الليبرالي. كما يمكن أن يستغل الكاك الأخطاء الأخيرة للليبراليين في إدارة الحملات والتواصل مع القواعد الانتخابية، ويستثمر أي شبهات حول جمع الأموال، أو إساءة استخدام النفوذ لتقوية موقفه.
بينما الحزب الكيبيكي، الذي يعتمد على قاعدة قوية من المؤيدين للهوية الوطنية واستقلال الكيبيك عن كندا، يملك فرصة لتعزيز مقاعده خاصة في المناطق، التي يشعر فيها الناخبون بالاستياء من سياسة الليبراليين المركزية أو الفيدرالية.
كما أن تصاعد الجدل حول الرسائل النصية واتهامات الفساد، يعطي الحزب الكيبيكي حجة للتركيز على أخلاقيات العمل السياسي ومحاسبة قيادة الحزب، وهو ما قد يجذب فئة من الناخبين المترددين، الذين يبحثون عن بديل مستقر، أمام الانقسامات الداخلية لليبراليين.
ومع ذلك لا يمكن إغفال أن الحزب الليبرالي رغم الأزمات يظل قوة سياسية كبيرة، بقاعدة انتخابية ممتدة، وتحسن إدارة الأزمة، واستعادة الثق،ة قد يتمكن من تدارك الخسائر المحتملة ،ويعيد توجيه حملته نحو القضايا الاقتصادية والاجتماعية الكبرى، التي تشغل بال المواطن الكيبيكي. وبالتالي تظل المنافسة على المقاعد مفتوحة ومعقدة وتعتمد بشكل كبير على قدرة كل حزب على استثمار الأزمة الحالية لصالحه، وعلى قدرة رودريجيز في إعادة ترتيب البيت الداخلي قبل انطلاق المعركة الانتخابية المقبلة.


