نجاح بولس يكتب: حركة يوليو ١٩٥٢ .. قليل من الحصاد كثير من الخطايا
لم يكن الحال قبل حركة الجيش يوليو ١٩٥٢ هو أفضل الأحوال بالتأكيد ، وكانت هناك فروق طبقية خطيرة بين فئات الشعب ، وكان الإحتلال يقبع جاثياً على صدور المصريين بكافة طبقاتهم الإجتماعية .
ولكن إذا عدنا لهذه الفترة على المستوى الدولي كانت مفاهيم العدالة والمساواة ومبادئ المواطنة وحقوق الإنسان لا زالت في مرحلة التبلور ، ولم تكن سائدة ولها آليات قانونية للتفعيل على مستوى العالم كما هو الحال الأن ، بل لم تكن المؤسسات الدولية العاملة في مجالات الحقوق والحريات والعدالة والمساواة قد تم تفعيل دورها بعد ، وكثير من أعتى الديمقراطيات الحالية كانت غارقة في الصراع الطبقي والعنصري وقتذاك ، رغم حركات التحرر المدني التي سبقت حركات التحرر الوطني في أفريقيا والشرق الأوسط بعشرات السنين ، حتى تم خلخلة الطبقية والعنصرية هناك بسيادة وتعزيز الحريات الشخصية وتشبع المجال العام بمبادئ الحقوق المدنية والليبرالية السياسية .
وإذا نظرنا إلى المناخ العام للحريات السياسية التي جعلت من الفترة الليبرالية التي إمتدت من ١٩١٩ وحتى ١٩٥٢ من أكثر فترات النضوج السياسي المصري .
وإذا نظرنا إلى حالة التنوع والرقي الثقافي والأدبي والفني في تلك الفترة والتي جعلت من القاهرة ومدينة الإسكندرية عاصمتان للفنون والأدب والثقافة ، يلجأ إليهما المبدعون من كل مكان بالعالم .
وبنظرة راصدة للنمو الاقتصادي المصري في تلك الفترة والتي جعلت مصر بكل محافظاتها أكبر الدول المستقطبة للإستثمارات الأجنبية ، ولنا في شركات القطاع العام التي تحولت إلى أوكار للفساد وعناوين للفشل المالي والإداري بعد تأميمها خير مثال ..
حتى ذاك الجهاز الإداري للدولة كان من عوامل نهوضها وليس إنهيارها كما نرى الأن ، فلم تكن مظاهر الفساد منتشرة بين أركانه ، وكان أعضاءه يتمتعون بمهارات عالية رغم إنخفاض مستوى تعليمهم ، ورغم عوامل الطبقية وعدم سيادة مفاهيم العدالة والمساواة عالمياً كان إختيار أعضاء الجهاز الإداري يستند للمعايير الوظيفية دون فساد أو إنحيازات ، حتى أن أعضاء تنظيم الضباط الأحرار أنفسهم كانوا منحدرين من أصول إجتماعية وإقتصادية متواضعة ، فمنهم من كان والده جندي بالجيش كوالد محمد نجيب ، أو موظف بسيط بمصلحة البريد كوالد عبد الناصر ، أو كاتب في مستشفى كوالد السادات ، ومع ذلك إلتحق أبنائهم بالجيش وتدرجوا فيه حتى وصلوا إلى مرتبة جنرالات ، وهو الأمر الذي أصبح مستحيل حدوثه بعد صعودهم إلى السلطة ..
كانت كل العوامل تنبئ بدولة مصرية عظيمة ورائدة إقتصادياً وثقافياً وعسكرياً وسياسياً ، ومع مزيد من سيادة مفاهيم العدالة والمساواة التي حدثت بالفعل في العقود الأخيرة ، لم يكن هناك أدنى شك في خلخلة الطبقية والتفاوت الإجتماعي والذي مثل أحد أهم المظاهر السلبية لتلك الفترة لصالح الطبقات الدنيا والمهمشة إجتماعياً وإقتصادياً .
لا أشكك في نوايا من قاموا بحركة الجيش في ٢٣ يونيو ١٩٥٢ ، وأثمن ما صدر عن الحركة من مبادئ تلخصت في القضاء على الإقطاع، القضاء على الاستعمار، القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، إقامة جيش وطني قوي، إقامة عدالة اجتماعية، إقامة حياة ديمقراطية سليمة، فلم يتحقق منها سوى إستمرار جيش مصر وطني حر ، كونه أكثر المبادئ التي سعى الحكام العسكريون لتحقيقها .
وبخلاف ذلك إنهارت الحياة الديمقراطية والسياسية بسبب تجميدها وحل الأحزاب السياسية واللجوء لخيار الحزب أو الكيان السياسي الواحد ممثلاً في الإتحاد الإشتراكي ، الذي ساهم في عسكرة المجال العام والحياة المدنية ، وإنهارت معها قوة مصر الإقتصادية بسبب قوانين التأميم والإصلاح الزراعي ، ثم عاد الإقطاع من جديد في أسوأ أشكاله أثر سياسات ما سمي بالإنفتاح الإقتصادي ، فسيطر رأس المال على الحكم من جديد وتراجعت منظومة العدالة الإجتماعية لمستويات غير مسبوقة ، تلاشت معها الطبقة الوسطى تدريجياً حتى باتت الطبقية والفروق الإجتماعية إحدى أسوأ الظواهر في وقتنا الحالي ، ولم يشفع لها مجانية التعليم الذي إنهارت منظومته مع إنهيار منظومة العمل الإداري بأكمله ، ولم يعد كافياً لنقل أي من المنخرطين في مستوياته العليا من طبقة إجتماعية لأخرى كما كان يحدث من قبل.
ومع تراجع التعليم تراجعت معه قوة مصر الناعمة في كافة المجالات الفنية والثقافية والأدبية وأخيراً السياسية ، فأي باحث حيادي موضوعي ، لا يستطيع سوى وصف تلك المبادئ التي صُدِرت للشعب عن حركة يوليو ١٩٥٢ سوى حقاً أُريد به باطل ..
بقلم الباحث / نجاح بولس