سليمان شفيق سليمان: موهبة العطاء وحب الحياة

في مطلع عام 2000، كنت لا أزال في بداية الطريق الصحفي، بعد أن عدت من فرنسا، حيث كنت أدرس وأعمل في المركز القومي للبحث العلمي الفرنسي CRNS. شابا التقي رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة جريدة وطني الغالية على قلبي، المهندس يوسف سيدهم، وأنتظر لمتابعة الحركة في الجريدة، من خلال الجلوس على كراسي مكتب الاستقبال، المواجه مكتب مدير التحرير والديسك المركزي في جريدة "وطني"، حيث كان الأستاذان أحمد صفوت عبد الحليم وسليمان شفيق. لم أكن أعلم أن ذلك اليوم سيشهد بداية قصة طويلة مع أحد هؤلاء: الأستاذ سليمان شفيق.
خرج من غرفة "الديسك"، بابتسامة لا تنسى، وبنظرة فيها دفء وثقة. تقدم نحوي، وتعرف عليّ كأننا نعرف بعضنا منذ زمن. لم يكن لقاء عابرا. كان بابا يفتح، وحياة تتغير.
أستاذ وصديق
سليمان لم يكن صحفيا فقط. كان إنسانا حقيقيا، نادر المثال. دخلت معه إلى "الديسك المركزي" في وطني، بدعمه، وبثقة أستاذي الآخر أحمد صفوت عبد الحليم، عند رئيس التحرير المهندس يوسف سيدهم، الذي يعتبر الأب الروحي لجيل كبير ممن كانوا من الشباب في تلك المرحلة، تخرجوا في برلمان وطني، ثم مركز التكوين الصحفي. ومع الوقت، تحولت علاقتنا من زمالة مهنية إلى صداقة راسخة، تجاوزت فارق العمر الكبير بيننا. كنا بعد العمل في الجريدة نذهب سويا لقضاء وقت طويل على المقهى، شأن حال الكثير من الصحفيين سواء في منطقة الإسعاف القريبة من مقر جريدة وطني. أو في منطقة منيل الروضة، حيث كان سليمان يسكن هناك خلال هذه الفترة قبل انتقاله إلى الضاهر.
كان يؤمن بالشباب. لا يفرض، بل يحتضن. لا يعلم من فوق، بل يمشي إلى جوارك. يستمع إليك، ويقسو حين يجب، ويساند دون أن تطلب.
رفقة خارج المهنة
كان يأخذني معه إلى حيثما يذهب. فتح لي أبوابا كثيرة لم أكن أحلم بها، من بينها الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية، حيث عملنا سويا مع الحقوق والسياسي والرمز الأستاذ جورج إسحق رحمه الله والصديقة العزيزة أمل أشعيا سكرتيرة الأمانة العامة. طفنا معظم محافظات مصر، وعملنا مع أكثر من 158 مدرسة. تعرفنا على شخصيات ثرية كثيرة في مقدمتها الدكتور عماد صيام رحمه الله. لم تكن تجربة مهنية فقط، بل إنسانية أولا، وثرية بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
لحظات الموت .. نراها بأعيننا
أتذكر حين كنا في طريقنا إلى الغردقة لتنظيم مؤتمر المواطنة لطلاب مدارس الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية، حيث أخذنا سيارة مرسيدس كبيرة (14 راكبًا) خاصة. وقرب مدينة السويس، انفجر أحد إطارات السيارة فجأة، فعمّ الرعب بيننا؛ كنا مجموعة من الأمانة، أذكر منهن بكل خير الأخت أمل أشعيا، وكاترين، ومنى.
كان الأستاذ سليمان شفيق يجلس بجوار السائق، وأنا أراقب الموقف من المقعد الخلفي. السائق دخل في نوبة من الذعر، يردد باستغاثة: "يا مار جرجس استرها!" مرارًا. وفجأة، تدخل سليمان بهدوء وقال له: "امسك أعصابك، مار جرجس معانا"، ثم أمسك عجلة القيادة معه، وطلب منه ألا يضغط على الفرامل، حتى تمكنا من التوقف بأمان بجوار الحاجز الخرساني الذي يفصل الاتجاهين.
بعد أن هدأت الأمور، سألت سليمان بدهشة: "جبت الثبات ده منين؟" فرد بابتسامة: "يا عوبد، أنا شفت الموت بعيني زمان... كنت في المقاومة في لبنان وفلسطين"، وراح يحكي لي طوال الطريق قصصًا من زمن النضال، بعد أن استرحنا قليلًا في السويس بانتظار سيارة أخرى من الشركة.
شبكة علاقة واسعة ومؤثرة يتمناها أي شاب
ومن خلاله، تعرفت على شخصيات شكلت وجداني. قدمني للدكتور رفعت السعيد رحمه الله رئيس حزب التجمع، والذي كثيرا ما ساعدني بالتوصيات عندما كنت موظفا حكوميا قبل أن أستقيل من التنمية الإدارية "التنظيم والإدارة" لألتحق بركاب صاحبة الجلالة الصحافة منذ عام 2006. كما عرفني بأحد آباء الرهبنة اليسوعية في مصر، وأحد مفكري لاهوت التحرير في الشرق الأوسط ومصر، وهو المرحوم الأب وليم سيدهم اليسوعي، الذي فتح لي أبوابا جديدة في الفكر والثقافة والروح. دخلت إلى عالم الرهبنة اليسوعية، وعشت تجارب عميقة مع مؤسساتها ومجتمعها في مختلف محافظات مصر، ما بين الإسكندرية والأخ فايز اليسوعي رحمه الله، ومركز التكوين الصحفي هناك، وبقية محافظات المنيا وأسيوط والأقصر وقنا وغيرها، وبالطبع القاهرة وخاصة منطقة الشرابية.
كان أستاذي سليمان شفيق يعرف كيف يربط بين الناس، وكيف يخلق حولك شبكة من العلاقات الحقيقية، لا تقوم على المصالح، بل على الثقة والمودة والعطاء.
البيت الثاني
تجاوزت علاقتنا حدود الزمالة الصحفية. كنت أزوره في بيته، ويزور أسرتي، كان يعرف والدي ووالدتي رحمهما الله. وكأنه فرد من العائلة. كما حكي لي وكان يجيد الحكي بجدارة عن زوجته الراحلة، وأبنائه، وحياته ما بين روسيا الاتحادية حيث حصل علي الدكتوراه في العلوم الاجتماعية، ونضاله في لبنان وفلسطين، واسمه الحركي "رفعت"، وغيرها من المراحل وصولا إلي المنيا، وحكاياته مع الإسلاميين وابو العلا ماضي واليسار وفي مقدمتهم شكري غالي وعادل الضو وعبد الرحيم علي وغيرهم ..
ثم قدمني إلى أحبائه وأصدقائه، والرهبنة اليسوعية في المنيا الآب مجدي سيف اليسوعي وكذلك الأستاذ مجدي عشم هذا القيادي الحقوق والتنموي في جمعية اليسوعيين في المنيا التي كانت نبراسا للتنوير وخدمة المجتمع وكانوا كرماء في المحبة مثله تماما.
وفي كل مكان مررنا به، من جمعية الجزويت في المنيا إلى مركز الجزويت في الإسكندرية، حيث كان المرحوم الأخ فايز سعد اليسوعي علامة مضيئة في الجهد الفكري والبحثي والاستناري للرهبنة اليسوعية عامة وفي الإسكندرية خاصة، خاصة المؤتمرات الفكرية والبحثية التي تنظيم تحت إشرافه في بيت اليسوعيين في كينج مريوط. كنا نترك أثرا، شخصيات كثيرة وجليلة مررنا بها من بينها الدكتور حسن حنفي والأستاذ كمال زاخر أحد الرموز القبطية والفكرية، وغيرهم كثيرين، لأنني كنت رفيق أستاذي في الكثير من تحركاته، وكنت أحوز على تقدير من يقدمني لهم سليمان. كنت أري في الأستاذ سليمان أنه بطبعه ممن يزرعون الخير ويمضون.
البديل... نافذة جديدة
بفضل ثقته ودعمه، التحقت بجريدة البديل اليومية، بتوصية منه لدي الأستاذ سيد كراويه، رجل الأعمال والرمز اليساري والرمز البورسعيدي المعروف، لدي الدكتور محمد السيد سعيد، رحمه الله، أول رئيس تحرير لجريدة البديل اليومية. كانت تجربة جديدة، جمعت بين المهنية والرسالة، وفتحت لي بابا واسعا من الشهرة العريضة في عالم الصحافة اليومية، خاصة في مجال الاقتصاد والاقتصاد السياسي. وبسبب تجربة البديل والسبق الصحفي الذي كنت أتشاور مع أستاذي سليمان شفيق فيه، كانت الكثير من البرامج التليفزيونية تتواصل معي. وبسبب تجربة البديل، طلبت من جمعية رجال الأعمال المصريين أن اعتذر عن اكتمال دوري معهم كمستشار إعلامي. ويطيب لي أن أذكر أن الأستاذ محمد يوسف سكرتير عام جمعية رجال الأعمال المصريين وبقية فريق العمل معه علي ما أتذكر أسماءهم الأستاذ ألفونس وداليا ورشا ومحمد وغيرهم كانوا فريقا رائعا، استمتعت كثيرا بالعمل معهم لسنوات عديدة. ثم وأنا في البديل، جاءتني الفرصة التي يحلم بها الكثير من الصحفيين وهي السفر للعمل في إحدى المؤسسات المهمة بإحدى الدول الخليجية الرائعة، وهي الإمارات العربية المتحدة. فكان الاختيار الصعب، بأن أترك البديل، وأحصل على أجازة بدون مرتب من وطني، للسفر إلى هذه الدولة الخليجية. كنت استشر الأستاذ سليمان في الكثير من خطواتي، بعد والدي عم فلي الجميل رحمه الله، الذي كان يعتبر مستشاري الأولي، وناصحي الرئيسي.
ومع أنني كنت قد عملت سابقا كمستشار إعلامي، فإن للصحافة اليومية طعما آخر. تعلمت فيها الكثير، وحققت بعض الانتشار، وأتذكر كثيرا صوت الأستاذ سليمان يرافقني: "لا تكتب لتبهر، بل لتفيد. لا تكتب لنفسك، بل للقارئ الذي يثق بك."
من القاهرة إلى كندا... والوداع من بعيد
ثم جاءتني فرص السفر الأطول. انتقلت إلى الخليج لبعض الوقت، ثم عدت لمصر لفترة، وأخيرا هاجرت إلى كندا في أمريكا الشمالية. تغيرت الجغرافيا، وتبدلت الإيقاعات، لكن علاقتنا لم تنقطع. كانت الرسائل والمكالمات تبقي على دفء العلاقة، حتى وإن ابتعدت المسافات. كانت كل فترة لنا مكالمات طويلة عبر ماسنجر أو الواتس آب، إذا كان يريد أن يتحصل على معلومات بشأن موضوع يقوم به أو دراسة يعدها، ويري أنني يمكن أن أكون مفيدا له، بما تراكم لدي من خبرات عمل ودراسة وبحث في مصر وفرنسا والخليج وتحديدا الإمارات وكندا. كنت دائما تنتابني الفرحة والسعادة وأنا استحدث معه، كان عبارة عن إناء من العطاء الإنساني الذي لا ينضب. يساعدك، إذا كان في استطاعته. ويطلب منه أن تساعد الآخرين، كما حصلت على المساعدة سابقا، لأنه لا يستطيع أحد أن يتعيش بمفرده في الحياة. تمر السنون. ولا تسع السطور لكتابة كل شيء.
منذ أيام عندما وصلني خبر وفاته، في 15 سبتمبر 2025، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كان ذلك من أصعب ما مر علي. لم أتمكن من حضور الجنازة بسبب آلاف الأميال بين مصر وكنا، لكنني في اليوم ذاته، وكان موافق يوم أحد، ذكرته اسمه في التراحيم "سليمان شفيق سليمان" على مذبح كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل هنا في كندا، وذكرته بالصلاة، كما كان يستحق.
رحل "سولم" بجسده، لكن ذكراه لا تزال تمشي إلى جانبي وفي ذهني. أستعيد كلماته، مواقفه، سهراتنا الطويلة في مقاهي وسط البلد، نقاشاتنا، ضحكاته، صمته، وغضبه النبيل.
كلمة أخيرة.. رجل لا يتكرر
وكما قال المتنبي "سيذكرني قومي إذا جد جدهم، وفي الليلةِ الظلماءِ يفتقد البدر". كثيرون كتبوا، وكثيرون مروا، لكن قليلين من تركوا هذا الأثر الطيب، الهادئ، الصادق.
رحل الأستاذ سليمان، لكن ما علمني إياه لم يرحل. لقد كان أستاذا يقدم العطاء والتعليم، وصديقا بلا شروط، ومرشدا في المواقف الصعبة. تعلمت منه أن تكون إنسانا أولا، قبل أن تكون صحفيا أو كاتبا أو مثقفا.
كان يؤمن بأن الحياة تعاش بالعطاء، وبأن الكلمة مسؤولية، وبأن العلاقات ليست مجاملة، بل التزام. كان سليمان شفيق إنسانًا له حضور خاص. خفيف الظل، شديد العمق، عاشقًا للحياة والبشر والعدالة. لم يكن محايدًا أبدًا، بل دائم الانحياز للحق، وللبسطاء، ولمن لم تُمنح لهم الفرص. كان يحب تحليل الشخصيات كما لو كانت كتبًا مفتوحة، ويجيد الاستماع كما يجيد الكتابة. وكان عندما يتضايق تلقائيا يتحدث باللهجة المنياوية الجميلة.
سليمان لم يكن فقط من أسس مسيرتي، بل من شكّل وجداني. وسيبقى دائمًا جزءًا من ذاكرتي وتكويني، وواحدًا من أعزّ من عبروا حياتي.
وداعا يا أستاذي وسلاما لروحك، الصحفي والباحث والمفكر والإنسان، سليمان شفيق سليمان. ستبقى حيا في، وفي من مررتَ بهم. وسأظل أذكرك لأنك كنت أحد علامة نور في حياتي ...