خواطر مسافر إلى النور (٢٣٢)
في الوحدة المسكونية للكنيسة المسيحية (١)

بين "إيمان يسوع المسيح" و "الإيمان بيسوع المسيح"
الحوار حول الوحدة المسيحية يتطلَّب بدايةً أن نتفق على تعريفات مهمة تضبط الحوار: ما هو تعريف الأيمان بالمسيح؟ وبالتالي يمكن تعريف مَن هو المسيحي؟ وعندئذ يسهل علينا تعريف الوحدة المسيحية.
السؤال الثاني هو هل الإيمان بالمسيح أصبح له متطلبات إضافية عن التي أعلنها الرب لنا في ظهوره في الجسد؟
والسؤال بصيغة أخرى، هل متطلبات الإيمان بالمسيح أصبحت معقدة - وبالتالي يسهل الاختلاف عليها بين المؤمنين - بسبب كثرة التفسيرات و(التأويلات) التي ظهرت علي مر العصور دفاعاً عن الإيمان المسيحي بحسب ما واجهته الكنيسة من إدعاءات تهاجم المسيحية في كل عصر (العصر الرسولي، عصر الهرطقات والمجامع المسكونية، عصر انتشار المسيحية، وأخيرا إذا جاز لنا القول عصر ضعف المسيحية)؟
ربما أسوق لحضراتكم آية في الكتاب المقدس لفتت انتباهي ولم أسمع/ أقرأ عنها بما يتوازي مع ما انفتح فهمها لي بالروح :
” يا إخوتي، لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح، رب المجد، في المحاباة.“ (يعقوب ١:٢)
“ My brethren, have not the faith of our Lord Jesus Christ, the Lord of glory, with respect of persons” (James 2:1)
الآية تتحدث عن "إيمان يسوع المسيح" الذي أستعلنه الرب يسوع المسيح عن نفسه لكي يؤمن به الجموع لكي يخلصوا من موت الخطية وتكون لهم الحياة الأبدية. إنه هو إيمان الرب يسوع المسيح الخاص به من جهة ذاته وكينونته أنه "ابن الله وابن الإنسان" الذي ليس بغيره الخلاص.
هذا في مقابل "الإيمان بيسوع المسيح" الذي يتحاور عليه الناس وما وصل إليه هذا الإيمان بسبب عمق الدراسات اللاهوتية التي وإن كانت تفتح لنا أفاق وأعماق حياة الشركة في الله الواحد الثالوث، إلا أنها وبسبب أجندات البشر المختلفة صارت سبب تفرقة بين المؤمنين وربما طاردة لاشتياق الراغبين.
أستأذن القراء في إعادة نشر مقال رقم (٢٠٠) لأنه ألقي الضوء علي إيمان يسوع المسيح: "إيمان يسوع المسيح " (غلاطية …١٦:٢ )
” إذ نعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس، بل بإيمان يسوع المسيح، آمنا نحن أيضا بيسوع المسيح، لنتبرر بإيمان يسوع لا بأعمال الناموس. لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما…. ونحن طالبون أن نتبرر في المسيح، …20 مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في. فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي.“
واضح أن الآية تكشف عن خيط رفيع في تعريف الإيمان المسيحي أنه ليس مجرد إيمان بيسوع المسيح بل أنه بحسب إيمان يسوع المسيح. فما معنى هذا؟ وهل الأيمان بالله في المسيحية يختلف عن الإيمان في العهد القديم أو في أديان الأرض؟
إن الإيمان في العهد القديم كان اشتراكا في حدث خارجي. مثال ذلك كان الفصح اليهودي واحتفالاته الخارجية. هذا قد توقف في المسيحية كما تؤكد رسالة العبرانيين ورسالة كولوسي .
وقد أشار الكتاب المقدس أن الإيمان في العهد الجديد هو "إيمان يسوع المسيح". إنه الإيمان الذي كان المسيح يحرص عليه وعبَّر عنه بقوله: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان".
لقد فتح المسيح في العهد الجديد باب السماء ليدخل الإنسان بالإيمان إلى أعماق الله، لأن ظهور الله في الجسد بتجسد المسيح نقل أيمان الإنسان بالله من الأمور الخارجية المرتبطة بالله في الزمن المخلوق، وجعله شركة في حياة الله، زمنها غير مخلوق. لأنها شركة في حياة شخص يسوع المسيح "الكرمة الحقيقة".
فالإيمان ليس بعد مجرد الاحتفال والقبول لحدث تمَّمه يسوع المسيح. لكن الإيمان صار وجود وكينونة في شخص يسوع المسيح وهو يتمم الحدث وأنت فيه. فالإيمان ليس إيمان بحدث بل بشخص. لذلك قال الوحي المقدس أن” لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبحَ لأجلنا“ (١كورنثوس ٧:٥) . فالإيمان ليس مجرد اشتراك في فصح بل شركة ووجود كياني لنا في شخص يسوع المسيح فصحنا المصلوب على الصليب. الأيمان المسيحي ليس هو إيمان بشخص المسيح "من بعيد لبعيد" كما يقولون، بل أن كينونتنا صارت في كينونة شخص يسوع المسيح:
” فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً ، وأنتم مملوؤن فيه“. (كولوسي ٩:٢)
كان الإيمان في العهد القديم يتضمن استعلانات الله لأناس بعينهم، وأهمهم الأنبياء الذين كانوا يُذكِّرون شعب الله بوعد الله لهم عن هذا الإيمان في العهد الجديد "إيمان يسوع المسيح" عندما يأتي ملء الزمان و يحِّل الله بنفسه فينا، أي في جسدنا (جسد المسيح الخاص ومن ثمَّة أجسادنا): ”والكلمة صار جسداً وحلَّ فينا“ (يوحنا ١) وليس بعد في هيكل من حجارة ”وأعطيكم قلباً جديداً، وأجعل روحاً جديدة في داخلكم، وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم.“ ( حز ٢٦:٣٦). ”وأما من ألتصق بالرب فهو روحٌ واحدٌ “ (١كورنثوس ١٧:٦).
فالإيمان في العهد الجديد كان نتيجة وعد إلهي بأن الإيمان الحقيقي بالله هو حياة الشركة في شخص المسيح.
لقد صار الإيمان بالله هو حلول شخص المسيح في حياة الإنسان: "ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أفسس ١٧:٣). هذا الحلول هو حقيقة كيانية تظهر وتُستَعلَن فينا علي هيئة الشهادة بالفم وسيرة التقوى: ”ظاهرين أنكم (يُستعلَن فيكم) رسالة المسيح مكتوبة بروح الله الحي، لا في ألواحٍ حجرية بل في ألواح قلبٍ لحمية.“ (كورنثوس الثانية ٣:٣).
فالله والإيمان به في الكنيسة المسيحية، صارت فيه الحروف والأحداث الخارجية نتيجة ومحصِّلة لاستعلان شخص المسيح في كنيسته وفي قلب كل من يقبله ويؤمن به.
ولأن الأيمان في العهد الجديد هو شركة في حياة المسيح، لذلك فإن بهذه الشركة تُستعلَن أقانيم الله للإنسان، ويَدخل الإنسان في مجال حياة الله. وقد رأيت ذلك في نبؤة داود النبي ”أدخلني الملك إلي حِجَاله“، حيث تَستَعلِن هذه النبوة عمل المسيح الملك الذي لبس جسدنا وأدخلنا في شخصه المتجسد إلى حجاله/غرفة المَلك الداخلية/ شركته مع الآب والروح القدس . هلليلويا.
لقد أسس الرب يسوع المسيح بتجسده شركة الإنسان مع الله. وللأسف نحن لا زلنا لم ينتبه الوعي فينا بالقدر الكافي لنستوعب حقيقة التجسد الإلهي أنه حياة شركة الأنسان في المسيح. إن التجسد فتح علاقتنا مع الآب والروح القدس لتصبح علاقة أشخاص ببعض وليست عبادة خارجية رسمية في فروض ونوافل. ومركز هذه العلاقة هي وساطة المسيح من خلال اشتراكه معنا في الناسوت البشري الذي أتحد بلاهوته أبدياً.
إن تجسد المسيح أحدث تغييراً في مفهوم ”العبادة“ فصارت علاقة حب شخصية بالله وليس بعد ”عبودية“ ممارسات خارجية: ”لا أعود أسميكم عبيدا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي“ (يوحنا ١٥:١٥).
إن الله في المسيح صار - سبحانه - هو الذي يخدمنا ولذلك ظهر في الجسد: "لأن ابن الإنسان أيضا لم يأت ليُخدَم بل ليَخدِم وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين" (مرقس ٤٥:١٠) .
إن الكنيسة التي أسسها المسيح هي جماعة يشتركون أي يعيشون حياة وموت وقيامة يسوع المسيح. وبالتالي فإن إيمانهم هو كينونة وجود الأغصان في يسوع المسيح الكرمة الحقيقية. بهذا فإن إيماننا المسيحي هو ”إيمان يسوع المسيح“.
(يُتبَع)... والسُبح لله