بين التقليد والتجديد.. صِراعٌ أم تكامُل؟

لطالما كان الجدَل بين الأجيال المُختلفة مُتجددًا باستمرار فيما يتعلق بالاختيار بين الإصرار على السير في طريق عادات وتقاليد السابقين في المجتمع وبين الانطلاق على خطوط التجديد بحماسةٍ قد تنسِف شطرًا كبيرًا من الماضي وما كان يعتبره من الثوابت، ويبدو أن هذا الصراع بين فكر الماضي وفكر الحاضر سُنة من سُنن الكون التي لا بد وأن تفرض نفسها في كُل زمانٍ ومكان قبل أن تتمخض عنه مساراتٍ جديدة تُسهِم في دفع عجلة الحياة واستمرارية إعمار الأرض.
ترتكز حُجج المؤيدين للسير الدائم في طريق التقليد على أن العادات والتقاليد لم تنبع من فراغ، بل من تجارب الأولين وخبراتهم المُتراكمة، إضافة إلى إجماع كثير من أفراد المجتمع في زمنٍ مضى على تلك المُعتقدات ما يؤكد صلاحها لمعيشة أغلبية البشر، بينما يرى مؤيدو التجديد أن تجارب الأولين وخبراتهم قد تتناسب تناسُبًا كبيرًا مع ظروف زمنهم ومُعطياته؛ لكن جانبًا كبيرًا منها لا يمكنه أن يظل مُتوافقًا مع ظروف الزمن الجديد واحتياجات أهله وأسلوب تفكيرهم، كما أن إجماع الأفراد في مجتمعٍ ما على رأي من الآراء في وقتٍ ما لا يعني أن يظل هذا الإجماع مقياسًا صالحًا إلى الأبد؛ لا سيما مع ما تفرضهُ التغيرات البيئية والاقتصاديَّة والاكتشافات المعرفيَّة من مُستجداتٍ تتطلب مواكبتها والتطوّر مع مُعطياتها.
إن الحاضر مهما كان مُشرقًا واعِدًا ما كان له أن يوجد لولا ارتقائه درجات الماضي واستناده على خبرة أهله، وبالمقابل تؤكد الحكمة العربية الأصيلة أن "ما لا يتجدد يتبدد"؛ فالأشياء والأفراد والمجتمعات التي تنأى بنفسها عن تيارات التجديد والتطوير تُهدد مستقبلها بالفناء وتحكم على حاضرها بالجمود وانعدام الأمل، والحل السلمي أمام تلك المُعضلة الأزليَّة هو اتخاذ سبيل "التسديد والمُقاربة" بأخذ الموعظة والعبرة والمشورة من الماضي مع فتح الأبواب للفكر المُتجدد بما يسمح له بتطوير واقعٍ صالح لعيش مُختلف الأجيال بصورة مريحة تحترم القديم ولا تنبذ الحديث أو تُصر على تجاهله.
لا خوف من التجديد حين تكون الأسس الأخلاقية والتربوية قوية، فالأخلاق التي يحترم بها الأفراد أنفسهم ومن سواهم لا تتغير على مر الأزمان ولا باختلاف الأماكن، وما التجديد إلا حياة لتلك الأخلاق الراقية في ثوبٍ مُعاصرٍ يتسع لها ويليق بأهلها، حتى الأديان السماويَّة حرصت على التجديد في أحكامها وأسلوب مُخاطبة العِباد مع تغيُّر الأماكن وطبائع المُجتمعات دون تفريط بالثوابت الروحانيَّة الأساسيَّة.
قد يكون من أبرز أزمات مُجتمعاتنا العربيَّة التشبُّث بالتقليد بـ "حفظ" دون "فهم" ما يجعل البعض على استعداد للحرب والاقتتال والتطاحُن في سبيل مفاهيم يستحيل على العصر الحاضر هضمها والتعامُل بها، فالكون يتقدم نحو الأمام وتجميده وفقَ قرونٍ خلَت أمرٌ مُستحيل، وطبيعة انسان اليوم تحتاج قراءة جديدةً ووعيًا جديدًا قادرًا على فهمها تجنبًا للمفارقات المُستحيلة المؤدية لاضطراباتٍ نفسيَّة.